«الفيل» .. التنمر بقالب كوميدي

تعد الكوميديا فن الهروب إلى الأمام، وتنجح السينما من خلالها في تسليط الضوء على أصعب وأعقد المشكلات التي يعانيها أي مجتمع دون أن تسميها بالحرف، وفيها كثير من السهل الممتنع لأن بين الكوميديا الحقيقية والابتذال شعرة بسيطة، وعدم الوقوع في فخ الوقاحة والكوميديا المبتذلة تحتاج إلى جهد مضاعف.. لكن رغم صعوبة إنتاج عمل سينمائي يصنف ضمن خانة الأفلام الكوميدية، هرب صناع السينما اللبنانية إلى هذا النوع من الأعمال، ليعبروا إما عن انتقادات الواقع المحيط بهم، وإما لجذب النظر إلى قضايا اجتماعية أساسية في أحيان كثيرة.
ويعد فيلم "الفيل" الذي أنتجته شركة "فالكون فيلم" واحدا من هذه المحاولات التي ستساعد على إثبات حضورها على الساحة العربية وحجز مكانة لها بين رواد صالات العرض، حيث يصنف "الفيل" من الأفلام الكوميدية العائلية، يعتمد على كوميديا الموقف والحدث ويقدم مقاربة بسيطة وخفيفة لبعض المشكلات التي يعانيها عديد من المجتمعات، ولقد صور الفيلم منذ أربعة أعوام لكن الأزمات المالية والأمنية التي أصابت لبنان حالت دون عرضه، فضلا عن جائحة كورونا، وهذا ما أعطى الفيلم ربما زخما أكبر واهتماما أوسع من قبل الجمهور المتعطش للضحك في زمن الانهيار والحزن.
"الفيل" كوميديا بسيطة وعفوية بعيدة عن أي تكلف أو ابتذال، تسلط الضوء على قضايا مهمة تتعلق بالعائلة والتنمر والفقر وتراكم الديون وغيرها من الأزمات التي عاشها المواطن اللبناني في الأعوام الماضية، تحاول أن تخرق جدار الأزمة وتطرح بعض الأمل من خلال الابتسامة.
الفيل .. الصيد الثمين
يشكل "الفيل" المحور الأساسي للعمل، فهو الكنز الذي يتم التهافت على اقتنائه، وتبدأ أحداث الفيلم عندما يقرر سامي وصديقه مكرم سرقة صديقهما الثري فريد، الذي كان في الماضي القريب زميل دراسة وبطل أحاديثهما ونكاتهما، لما يتميز به من شخصية ضعيفة جعلته محط سخرية من الجميع. لكن الظروف تبدلت وها هو الفتى السمين الصغير تحول إلى رجل ثري يملك سيارة وفيلا فخمة ولديه بعض التحف الأثرية التي تشكل ثروة. هذه الثروة تثير لعاب سامي ومكرم اللذين أكلهما الفقر وتراكمت عليهما الديون، ووجدا في أغراض فريد صيدا ثمينا يخلصهما من المشكلات المادية التي يعانيانها، وهذا الصيد ما هو إلا فيل ذهبي باهظ الثمن، لتتحول بعدها عملية السرقة إلى مطاردة مثيرة مليئة بالمواقف الكوميدية في رحلة مليئة بالمغامرات والمخاطر.
وقد وفق المخرج سامي كوجان في اختيار الممثلين لتجسيد الشخصيات المطلوبة بكثير من البساطة والعفوية، حيث يشارك في بطولته كل من هشام حداد، جبريال يمين، سيرينا الشامي، فؤاد يمين، جنيد زين الدين، كما شارك في العمل الممثل جوزيف زيتوني الذي يؤدي دور رئيس عصابة وسيلفيو سركيس يهوى الغناء، وغيرهم من الوجوه الشابة، وقد تشارك كل من دانيال حبيب وكامي كبابة في كتابة القصة والسيناريو.
التنمر
بدأت ظاهرة التنمر في الفترة الأخيرة تشكل مصدر قلق لكثيرين، وأصبحت المدارس أكثر اهتماما بهذه الظاهرة التي عكس تفشيها خطورة نفسية تؤثر في بناء شخصية الفرد وسلوكه، خاصة عندما يظهر التنمر بين مقاعد الدراسة في الصغر وقبل بناء الشخصية الناضجة والمتحكمة بأي نقد قد يوجه لها. صحيح أن فيلم "الفيل" هو كوميديا بسيطة وعابرة لكنه يحمل في أعماقه بعض الرسائل الاجتماعية الأساسية التي بدأت تأخذ حيزا من اهتمام الأسر والمدارس والمشرفين على تربية الأطفال ومتابعة مراحل نموهم. فريد الذي يجسد شخصية الكوميدي هشام حداد، كان محور ضحك واستخفاف من قبل زملائه في المدرسة، وكان يلقب بالفيل، ضحكوا عليه كثيرا عندما كان صغيرا وسمينا وعاجزا عن رد الإساءة، لكن عدل الحياة منحه فرصة أن يسخر منهم بعد أن أصبح كبيرا وتحول إلى شخصية بارزة لديها نفوذ وثراء ومكانة اجتماعية، وصاحب مبادرات وحفلات صاخبة، بينما رفيقاه أي فؤاد يمين وجنيد زين الدين لم تسعفهما الحياة، يعيشان أوضاعا صعبة، لا يملكان المال، وعندما يعلمان بأمر فيل الذهب الموجود في قصر فريد يقرران سرقته لسداد عديد من الفواتير الطارئة، لكنه يكتشف ما يخططان له وتنقلب مجريات الأحداث.
لغز فريد وعلاقته بوالده
هذا الفتى البدين فريد يخفي خلف جدران قصره الفاخر، لغزا لا يعرفه أحد يتمثل بعلاقته السيئة مع والده الذي يجسد دوره الفنان جبريال يمين، والذي بدوره يخفي في خزنته المؤصدة بشكل جيد "الفيل"، الغنيمة التي ينوي صديقاه سرقتها، ولأنه لا يتفق مع والده قرر أن يتشارك مع مكرم وسامي في عملية السرقة، في محاولة للفت نظر والده القاسي الذي حرمه والدته.
ويأتي انضمام فريد إلى صديقيه في عملية السرقة ليشكل تطورا ضروريا في الحبكة الدرامية للفيلم، لأنه أي فريد لا يريد المال لكنه يريد استعادة علاقته بوالده، واستعادة وجوده داخل الأسرة وهذا ما تظهره نهاية الفيلم، بحيث يكتشف الثلاثة لدى وصولهم إلى الفيل أنه عبارة عن قطعة من الخشب لا قيمة لها، ولن تعود عليهم بالمال الذي يتمنونه. سامي ومكرم لم يحصلا على المال لكن فريد نجح في استعادة علاقته بوالده، عاد إلى حضن عائلته كما تمنى وأراد، وصديقاه عادا إلى حياتهما الرتيبة، لم يحصلا على الغنيمة لكنهما نجحا في تصحيح علاقة فريد بوالده عند الكبر، وكأن الحياة منحتهما فرصة للاعتذار عن الأذية النفسية التي سبباها له عندما كانا يتنمران عليه ويصفانه بالفيل.
وهنا تكمن رسالة اجتماعية جديدة للفيلم تعزز أهمية التواصل بين الأهل وتسلط الضوء بطريقة عفوية وكوميدية، على أهمية الترابط الأسري والوجود بين أحضان الآباء والأمهات، مهما علا شأن الشخص أو زادت ثروته.
البساطة
يعالج فيلم "الفيل" بعض المشكلات الاجتماعية بكثير من البساطة والسهولة، عمل لا يدعي الكثير، يقدم كوميديا خفيفة سلسة مع نص رشيق سريع الإيقاع، وأداء متميز متين للممثلين الخمسة الأساسيين، خدمتهم حوارات بسيطة ذكية تأتي في وقتها من دون إطالة، أو تفلسف فارغ، حتى الـ"شو" الخاص برجال العصابة كانت له خصوصيته وجاء ملائما ومنسجما مع السياق العام للفيلم.
وقد نجح المخرج كوجان في التعاطي مع الصور المتناقضة بحرفية أعطت الفيلم نبضا يخلط الضحكة من القلب بأسف درامي على تصرفات مراهقين تحولت في مرحلة متقدمة إلى كسر خاطر فمن تنمرا عليه بات في موقع مريح ماديا وعندما حاولا سرقته جاءت المحاولة لمصلحته فقد عاود العلاقة مع والده تعويضا عن أعوام الجفاء الطويلة. قدم رسالة اجتماعية هادفة بطريقة مبسطة وفرحة.
إذا، الكوميديا ليست للمرح والتسلية فقط، بل تحمل بين مشاهدها عديدا من الظواهر الاجتماعية التي لا بد من التنبه إليها في بدايتها، وإلا ستصبح آفة خطيرة تصعب مكافحتها.