المعرفة والتنمية والتوجه نحو المتفق عليه

يحفل تاريخ الأمم بصراعات داخلية عديدة تختلف الآراء بشأنها، والأمثلة على ذلك كثيرة. فقد شهدت الولايات المتحدة في القرن الـ18 حربا من أجل الاستقلال، ثم حربا أهلية في القرن الـ19. ولم تكن بريطانيا بعيدة عن مثل ذلك، حيث حدثت فيها، في القرن الـ17، حرب أهلية عرفت بحروب الممالك الثلاث إنجلترا، واسكتلندا، وأيرلندا، كما شهدت قبل ذلك في القرن الـ16 قطع رأس ملكة اسكتلندا ماري، من قبل ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى. ومن يرصد التاريخ يرى مثل هذه الصراعات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فضلا أيضا عن الصين ودول الشرق الأقصى، وغيرها من أمم العالم. ولم ترتبط الصراعات بأطماع القوة والسلطة فقط، بل كانت لها أسباب فكرية ودينية، وربما دوافع محلية، لا تزال تفرعاتها ممتدة ومؤثرة بدرجات مختلفة، حتى الآن، وربما في المستقبل أيضا.
وليس تاريخ العرب والمسلمين بمختلف عن تاريخ الأمم الأخرى، فالصراعات الداخلية في هذا التاريخ عديدة ومنتشرة على مدى الامتداد الجغرافي العربي والإسلامي، كما أن اختلاف الآراء بشأنها لا يزال قائما حتى الآن. ويحلو لكثير من المتخصصين والمثقفين التركيز على النظر إلى الماضي، ومناقشة ما هو مختلف عليه في التاريخ العربي والإسلامي، في بعض القنوات التلفزيونية، والمواقع المرتبطة بـ "يوتيوب"، وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى. وليس في ذلك مشكلة عندما يكون الحوار موضوعيا، ومبتعدا عن إثارة المشاعر والتحديات. فالنظر إلى الماضي، يجب أن يكون رصينا، يوسع الآفاق الثقافية للإنسان، ويعزز قدرته على تقبل تعددية الآراء، مع الحرص على عدم إعاقة المختلف عليه في الماضي لما يجب الاتفاق عليه حاليا، ألا وهو إدراك شؤون التقدم العلمي والتقني، ومتطلبات التنمية المنشودة.
يطرح هذا المقال مسألة النظر إلى تحديات المعرفة والتنمية التي علينا جميعا مواجهتها في طريقنا الحتمي نحو المستقبل. وتبرز في إطار هذه المسألة، ضرورة إعطاء وسائل الإعلام المرئي ووسائط التواصل الاجتماعي واسعة التأثير، الاهتمام الكافي لحاجة أبناء المجتمع، على مختلف مستوياتهم العمرية والمعرفية، إلى تبني هذا التوجه. فسباق أمم العالم قائم على قدم وساق في تفعيل التعليم والتعلم مدى الحياة، وتحفيز إبداع الأفكار، والتركيز على الابتكار، وعلى ما تحتويه الأفكار المبتكرة من قيمة. وهو قائم أيضا في شؤون توظيف هذه الأفكار والاستفادة منها في تطوير مخرجات الأعمال وتحقيق التنمية، بما يشمل توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، في مختلف القطاعات الصناعية والخدمية وغيرها. ويتطلع سباق الأمم هذا إلى تفعيل عمل الجميع، اقتصاديا وإنسانيا واجتماعيا، مع أخذ شؤون الاستدامة والاستجابة للمتغيرات في الحسبان.
يبدأ التوجه نحو المعرفة والتنمية بنشر الوعي حول هذا الأمر ومتطلباته، ولا شك أن لوسائل الإعلام ونشر الثقافة، بأشكالها المختلفة، وكذلك لشبكات التواصل الاجتماعي، دورا مهما في هذا المجال. ولعل بإمكاننا النظر إلى هذا التوجه من خلال ثلاثة أبعاد رئيسة. يهتم البعد الأول بالمعرفة والانتقال من التعليم التلقيني إلى التعليم الابتكاري، ومن التركيز على الجوانب المعرفية النظرية في التعليم، إلى أخذ الجوانب التطبيقية وشؤون القيمة التنموية بطرفيها المادي والمعنوي في الحسبان، كما طرحنا في مقال الأسبوع الماضي. أما البعد الثاني، فيتطلع إلى الاحتياجات التنموية الداخلية، والعمل التنموي الممكن للاستجابة لها في شتى قطاعات الإنتاج والخدمات. ويوسع البعد الثالث النظرة التنموية لتشمل جوانب التنمية عبر الإنتاج الذي يستهدف الخارج، ويعزز الأداء التنموي المشترك مع العالم.
تنبع الحاجة إلى بعد التعليم الابتكاري والاهتمام بالجوانب التطبيقية من أمرين رئيسين اثنين. يرتبط الأمر الأول بحقيقة أن التعليم التلقيني يركز على نقل المعرفة والحرص على تلقي الطلاب لها واستيعابهم مضامينها، ويرى أن ذلك غير كاف، لأن خصائص العصر تتطلب الإبداع والابتكار، وإضافة معلومات جديدة ومفيدة وقابلة للتطبيق. وعلى هذا الأساس يتطلع هذا الأمر، ليس فقط إلى تلقي المعرفة واستيعابها، بل إلى التفكير فيها وإيجاد المزيد الجديد منها الذي يمكن أن يحمل قيمة تسهم في التنمية.
ونأتي إلى الأمر الثاني للحاجة إلى التعليم الابتكاري وتفعيل التفكير، حيث يرتبط هذا الأمر بما يشهده العالم من تطور في "الذكاء الاصطناعي AI". فالذكاء الاصطناعي متميز في تلقي المعرفة واستيعابه لها بسرعة وسعة تتجاوز إمكانات الإنسان عبر مختلف أساليب ما يعرف بـ "تعلم الآلة"، لكنه لا يستطيع مجاراة الإنسان في سعة آفاق التفكير، وإيجاد مفاهيم جديدة غير مسبوقة، وهذا ما يسعى التفكير الابتكاري إليه.
وننتقل إلى بعدَي التنمية: الداخلي، الذي ينظر إلى الاحتياجات الداخلية التي يمكن العمل على الاستجابة لها. والخارجي، الذي يتطلع إلى الاستجابة لاحتياجات الخارج والاستفادة منها في تفعيل التنمية. وتبرز من هذين البعدين أمور عديدة على رأسها ثلاثة جوانب رئيسة مهمة، هي: جانب المعرفة والتفكير والابتكار الذي تحدثنا عنه وأبرزنا الحاجة إليه فيما سبق، وجانب الخبرة في مجالات الأعمال المناسبة للتنمية المنشودة داخليا وخارجيا، ثم جانب الاستثمار الذي يقدم قيمة على أمل الحصول على قيمة أكبر منها تمكنه من الربح ومن التوسع في الاستثمار.
يمكن في جانب الخبرة التعاون مع أصحاب الخبرة، خصوصا الشركات الكبرى العاملة في مختلف أنحاء العالم. فشركة كبرى كـ "تويوتا اليابانية"، على سبيل المثال، تصنع السيارات وتتبنى خطوط إنتاج لها في مختلف دول العالم، حيث يعود عليها ذلك بالفائدة في تعزيز كفاءة العمل وتوزيع المخرجات على الأسواق، ويعود أيضا بالفائدة على الدول ذات العلاقة من حيث توظيف اليد العاملة والاستفادة منها، وبناء الخبرة. أما في جانب الاستثمار، فمجالات التنمية واسعة النطاق، وانطلاق الاستثمار يأتي في إطار مفاهيم رأس المال الجريء ودراسة الجدوى، ولا بد من الاهتمام بذلك على نطاق واسع.
نحتاج إلى اهتمام أكبر بالتوجه المأمول نحو المعرفة والتنمية. نريد من وسائل الإعلام، ومن رواد الشبكات الاجتماعية، طرح موضوعاته مع خبراء التعليم والتدريب، ومع خبراء الأعمال والمستثمرين، لعل في ذلك تحفيزا لعقلية بناء المستقبل الذي نتطلع إليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي