هل ضاقت اللغة العربية عن وصف العلوم والمعرفة؟
كثيرا ما نسمع أو نقرأ أن النشر العلمي بلغة غير العربية أنجع، وأن تلقي العلوم باللغة الإنجليزية أفضل، وأن الحديث عن العلوم والمعرفة بلغة أعجمية أسهل من العربية. قد يجفل بعض القراء من المقدمة هذه، أو تنتابهم مسحة من القنوط أو الغضب أو الحنق، ولكن مهما عبرنا عن استهجاننا، فإن الواقع يحتم علينا الاعتراف أن فيها كثيرا من الحقيقة.
أثناء وجودي في ديار العرب وجامعاتهم أستاذا زائرا، ينتابني حزن شديد وأنا ألحظ صراعا بين الهيئات الجامعية العربية إن كان النشر العلمي بالعربية أمرا مستساغا ومقبولا أكاديميا.
ويقع الأكاديميون العرب من الذين تلقوا علومهم بالعربية وكتبوا أطروحاتهم فيها في حيص بيص، من ناحية، تقل فسحة التعيين في وجوههم لأن الجامعات العربية، أو أغلبها ولا سيما الخليجية منها، صارت تطبق شروطا ربما تبدو تعجيزية حتى في أروقة الجامعات الغربية، بقدر تعلق الأمر بالتعيين.
المتطلبات تشمل النشر العلمي حسب معايير لم ألحظ مثلا أن الجامعات في السويد أو في أغلب الدول الإسكندنافية أو الأوروبية الأخرى تتبعها، كل هذا مرده الهرولة ـ التي لا أراها من الحكمة والمنطق في شيء ـ لتبوء مكانة رفيعة في سلم ترتيب الجامعات في العالم.
أصبح لي نحو ثلاثة عقود أعمل أستاذا جامعيا في الغرب وأجزم أن السلم الترتيبي للجامعات في العالم لم نناقشه أبدا، وحتى اليوم لا أعرف ـ ولا أريد أن أعرف ـ مرتبة الجامعة السويدية التي أعمل فيها في سلم ترتيب الجامعات العالمية. ولم يحدث أن قمنا في يوم ما باتخاذ إجراء غايته الحصول على ترتيب أعلى، ولكننا نعمل المستحيل لتقديم أفضل تعليم لطلبتنا وتمكينهم من الدخول في سوق العمل بكفاءة وتنافس فور تخرجهم.
تتبارى الشركات في التعاقد مع طلبتنا حتى قبل التخرج، لأنها تراهم ذخرا من حيث الكفاءة في العمل والمساهمة في البحث والتطوير.
إنه لأمر محزن أن ترى الجامعات في العالم العربي، وعلى الخصوص في الخليج، وقد صار همها مكانتها في سلم ترتيب الجامعات في العالم. وألحظ بألم أن هناك سباقا محموما بين الجامعات داخل القطر الواحد ومن ثم ضمن نطاق منطقة محددة كدول الخليج العربي مثلا للوصول إلى مراتب أعلى. والحديث عن الكمية يأتي في المقدمة وليس مقياس مستوى البحث العملي وفائدته للمجتمع والإنتاجية الزراعية أو الصناعية أو الخدمات للدولة التي تقع الجامعة فيه.
وسأعزف عن الحديث عن أساليب النشر، لأن الغاية في الأغلب يصبح النشر العلمي من أجل النشر العلمي. إن قدم الباحث أو الأستاذ الجامعي في هذه الدول سجلا بالنشر يتوافق مع طموح الجامعة، سيحصل على تمديد لعقده، وإلا عليه المغادرة.
كنت أتصور ـ وكم كنت مخطئا ـ أن الكليات والجامعات تتبارى لنشر الأبحاث باللغة العربية، أولا لأن العربية، عكس ما يشاع عنها، تسع العلوم والمعارف، كما كان شأنها عندما ترجمت إليها علوم الدنيا في مستهل العهد العباسي وأصبحت خلال عقود لغة العلم والمعرفة.
اليوم هناك أخطار متشعبة وقد تكون ذات عواقب غير حميدة بقدر تعلق الأمر بالبحث العلمي في الدول العربية بصورة عامة والخليجية منها بصورة خاصة، وعدم الاتكاء على اللغة الأم "العربية" يأتي في مقدمتها.
ليست لدي إحصاءات مثبتة، ولكن إن أخذنا النشر العلمي بالعربية التي ينطقها نحو نصف مليار إنسان مقارنة بلغات وطنية أخرى تنطقها شعوب قد لا تزيد على خمسة ملايين "نحو 0.1 في المائة" لصار الأمر جليا. لن أذكر الأسماء لأن هذا ليس بيت القصيد، ولكن الاختلاف مهم من أجل المقارنة والمقاربة.
الفرق، أن الأمم هذه تهتم جدا باللغة الأم التي هي وسيلة اكتساب العلم والمعرفة في أغلب الحقول ووساطة التدريس والتعليم في كل المراحل التدريسية.
وبعض هذه اللغات لا تملك عشر ما للعربية من تراث زاخر راكمته المراحل التاريخية المتعاقبة كانت في فترة من الفترات لغة التواصل المشترك للعلوم والمعارف في أغلب بقاع العالم.
وليست لدي إحصاءات ثابتة أيضا، ولكن هناك قصورا في الدوريات والمجلات العلمية وقد يكون عدد هذه المنشورات المعتمدة باللغة الوطنية في هذه الدول أكثر من تلك لدى الدول العربية.
وهناك أسباب وشؤون أخرى كثيرة لا تقل أهمية عن التي نذكرها هنا، إلا أن هذه الدول لا تميز البتة بين النشر العلمي باللغة الوطنية والنشر العلمي باللغة الإنجليزية مثلا، لا بل تشجع النشر باللغة الوطنية. أين الجامعات العربية من هذا؟