كورونا .. ليس شرا كله

بناء على إحصاءات منظمة الصحة العالمية، فقد بلغ مجموع حالات الإصابة بفيروس كورونا منذ بداية الجائحة غير المسبوقة إلى هذا اليوم نحو 770 مليون حالة، منهم نحو سبعة ملايين حالة وفاة، ويقابل ذلك ملايين جرعات التحصين المنفذة التي بلغت 13.5 مليار جرعة.
في الحقيقة، لم تكن جائحة Covid-19 أزمة صحية فقط، بل كانت أزمة اجتماعية واقتصادية ظهرت تداعياتها الشديدة وآثارها بعيدة المدى في جميع أنحاء العالم، ما بين إغلاق المدارس، وما واكبه من تعطل في عملية التعليم في كثير من الدول، إلى الآثار المدمرة للصناعات وفقدان ملايين الوظائف.
ولعل ما اتخذه معظم دول العالم والمنظمات الأممية من تدابير متنوعة، صحية واجتماعية واقتصادية وأمنية، للحد من انتشار الوباء، خفف من آثارها المدمرة، خاصة مع حماية صحة السكان، ودعم الدول اقتصاداتها ومؤسساتها الاقتصادية لتجنب حدوث انهيار اقتصادي أو إفلاس على نطاق واسع أو ارتفاع معدلات البطالة بشكل مفرط.
رغم ذلك كله، تأثرت الشركات عموما، والشركات الصغيرة والمتوسطة خصوصا، التي تشكل النسبة الكبرى من منشآت القطاع الخاص في معظم دول العالم، وذلك بسبب القيود والتدابير الاحترازية وانخفاض ساعات العمل وتوقف التوظيف، ما أدى إلى اضطراب سلاسل الإمداد والتوريد، وكذلك اضطراب الأسعار. ولم تمنع التدابير والمساعدات التي قدمتها الدول من إفلاس عديد من الشركات، كما لم تمنع من ظهور الآثار السلبية في الفئات الاجتماعية والاقتصادية الضعيفة.
على الوجه الآخر من العملة، كانت جائحة كورونا حافزا قويا للتقدم الرقمي بما فيه الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، وما واكب ذلك من تحولات كبيرة في ممارسات العمل وأساليب التعليم، ما أتاح فرصا متنوعة وتحديات جديدة للعمال والشركات والدول، وأدى إلى تعزيز روح المبادرة والابتكار. ومن المؤكد أن ينعكس ذلك على تحسن جودة العمل وابتكار أساليب جديدة لمعالجة احتياجات الفئات الاجتماعية والاقتصادية الضعيفة، خاصة بعد النجاح المعقول في حماية الأسرة في كثير من المجتمعات من خلال تكثيف نشاط المؤسسات الاجتماعية والضمان الاجتماعي.
لا شك أن أزمة كورونا خلفت وراءها الأيتام والأرامل والفقراء والمتعطلين عن العمل، إلى جانب إفلاس الشركات والمؤسسات الاقتصادية، لكن ذلك لا يمنع من النظر بإيجابية للآثار التي خلفتها في التعليم والعمل والبحث والابتكار.
وفي هذا السياق، أستغرب من أن كثيرا من المؤسسات والمنظمات الدولية وكذلك الجامعات ومراكز الدراسات والبحوث لم تستطع التحرر من بوتقة الآثار الصحية التي خلفتها الجائحة والآثار السلبية في المؤسسات والشركات. فلم تحاول تقييم الآثار الإيجابية الهائلة في ممارسات العمل، وسهولة عقد الاجتماعات والتواصل بين الموظفين والخبراء في جميع أنحاء العالم، ما أتاح للشركات استقطاب الكفاءات والاستفادة من الخبرات من بعد، دون تحمل تكاليف السفر والإقامة، علاوة على سرعة الاستفادة من الخدمات الاستشارية ونحوها، إلى جانب زيادة التوظيف من بعد، وكذلك تحويل كثير من الخدمات إلى خدمات سحابية بما فيها المطاعم السحابية ومن تقليل تكاليف استئجار المكاتب وصيانتها. ولا بد أن ذلك كله انعكس على معدلات إنتاجية العمل، ومن ثم زيادة الإنتاج. بالمثل، انعكس التطور التقني الهائل نتيجة جائحة كورونا، إلى تطوير ممارسات التعليم عموما، خاصة التعليم الإلكتروني، إلى جانب تعزيز البحث والابتكار من خلال إمكانية استقطاب العقول والاستفادة من العلماء والباحثين المميزين "من بعد" سواء في تقديم الدروس والمحاضرات للطلاب أو عقد الندوات والمؤتمرات العلمية.
ختاما، أتمنى أن تقوم المنظمات الدولية، كالبنك الدولي ومنظمة العمل الدولية ومراكز البحوث في الجامعات، بإجراء دراسات علمية لتقييم تأثير التقدم التقني وممارسات العمل والتعليم التي شجعتها جائحة كورونا أو بالأحرى حتمت تبنيها في إنتاجية الشركات، وكذلك في البحث والابتكار والتعليم، إلى جانب الدروس المستفادة لتعزيز النظام الصحي العالمي الذي كشفت عن هشاشته وعدم كفاءته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي