أسوأ أداء اقتصادي هذا العام .. هل تتخطى ألمانيا الانهيار؟
حلت الكآبة محل الراحة بوصفها الشعور السائد حول ألمانيا بين الاقتصاديين. يحذر الخبراء من ركود آخر في أكبر اقتصاد في أوروبا، رغم خروجها من أزمة الطاقة في الشتاء الماضي في وضع أفضل مما كان يخشى منه في البداية.
تفاقمت المشكلات الهيكلية طويلة الأمد، من شيخوخة السكان إلى البنية التحتية المتداعية، بسبب الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الفائدة وتعثر التجارة العالمية.
يتوقع كل من صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تكون ألمانيا أسوأ اقتصاد رائد أداء في العالم هذا العام. أثارت صحيفة "بيلد تسايتونج" الأكثر مبيعا في البلد ناقوس الخطر أخيرا، معلنة: "النجدة، اقتصادنا ينهار" حيث ناشدت المستشار أولاف شولز لاتخاذ إجراء.
ما سبب سوء أداء ألمانيا؟
عانى رابع أكبر اقتصاد في العالم الركود في الأشهر الثلاثة حتى يونيو، بعد الانكماش في الربعين الماضيين - ما أدى إلى انخفاض أدائه مقارنة بجميع منافسيه الكبار.
السبب الرئيس هو الانكماش العالمي في التصنيع، الذي أصاب ألمانيا بشكل غير متناسب حيث يسهم القطاع بخمس إنتاجها الإجمالي - وهو مستوى مشابه لليابان، لكنه ضعفا مثيله تقريبا في الولايات المتحدة، وفرنسا والمملكة المتحدة.
قال أوليفر هولتمولر، رئيس قسم الاقتصاد الكلي في معهد هالي للأبحاث الاقتصادية، إن ارتفاع أسعار الطاقة والتوترات التجارية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية كان لهما تأثير حاد في القطاع. وأضاف أن التكلفة المرتفعة لرأس المال ونقص العمالة الماهرة قد وضعتها "تحت ضغط شديد".
تراجعت أسعار الغاز والكهرباء في ألمانيا منذ العام الماضي. لكنها تظل أعلى مما هي عليه في كثير من الدول غير الأوروبية، كما انخفض الإنتاج في القطاعات الصناعية كثيفة الاستهلاك للطاقة في ألمانيا، مثل الكيماويات والزجاج والورق، 17 في المائة منذ بداية العام الماضي، ما يشير إلى خسائر دائمة.
قالت فرانزيسكا بالماس، كبيرة الاقتصاديين في شركة كابيتال إيكونوميكس الاستشارية: "توقعات الصناعة الألمانية قاتمة".
وما يضيف إلى مخاوف البلد، تعرض قوته التقليدية في صناعة السيارات للتهديد، حيث تخسر علاماته التجارية الكبرى حصتها في السوق لمصلحة المنافسين الصينيين الأرخص سعرا في قطاع السيارات الكهربائية سريع النمو. قال مارتن وولبورج، كبير الاقتصاديين في جنرال إنفستمنتس يوروب: "إن بضائع التصدير الرئيسة للبلد - السيارات - تتعرض للمنافسة بشكل متزايد".
توقع المحللون الذين شملهم الاستطلاع هذا الشهر من قبل شركة كونسينساس إيكونميكس أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الألماني 0.35 في المائة هذا العام - وهو انعكاس للنمو الطفيف الذي توقعوه قبل ثلاثة أشهر. كما خفضوا توقعاتهم للنمو لـ2024 إلى 0.86 في المائة، بانخفاض من 1.4 في المائة التي توقعوها في بداية العام.
منذ متى كان أداؤها ضعيفا؟
انتعشت ألمانيا بشكل أسرع من الأزمة المالية لـ2008 مقارنة ببقية منطقة اليورو، حيث نمت التجارة العالمية وكافح الأعضاء الجنوبيون في الكتلة مع أزمات الديون السيادية والبنوك.
لكن البلد الرائد أصبح متخلفا منذ ذلك الحين. فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الألماني فوق مستويات ما قبل الجائحة بقليل فقط في يونيو، بينما كانت منطقة اليورو أعلى من ذلك المستوى 2.6 في المائة.
قال يورج كرامر، كبير الاقتصاديين في بنك كوميرزبانك الألماني: "إذا وضعنا أزمة فيروس كورونا جانبا، فقد بدأ الأداء السيئ في 2017، لذلك ظلت المشكلات الهيكلية قائمة منذ فترة".
قال الخبراء إن القدرة التنافسية للبلد تآكلت بشكل مطرد بسبب ارتفاع تكاليف العمالة، والضرائب المرتفعة، والبيروقراطية الخانقة ونقص الرقمنة في الخدمات العامة. يتضح هذا عبر تراجع ألمانيا في تصنيفات التنافسية العالمية لكلية إدارة الأعمال أي إم دي إلى المرتبة الـ22 من بين 64 بلدا كبيرا - وذلك بعد أن كانت في المراكز العشرة الأولى قبل عقد من الزمن.
وقال كريستيان شولز، نائب كبير الاقتصاديين الأوروبيين في بنك سيتي الأمريكي: "تآكلت الميزة التي بنتها ألمانيا في الأعوام العشرة الأولى من اليورو إلى حد كبير حيث ارتفعت تكاليف وحدة العمل الألمانية بشكل أسرع من بقية منطقة اليورو وتقاربت تكاليف العمالة في سلسلة التوريد في أوروبا الشرقية في ألمانيا مع الغرب".
صنف معهد زيو ألمانيا أخيرا على أنها "بلد ذو ضرائب مرتفعة للاستثمار"، مشيرا إلى أن معدل الضريبة الفعلي على أرباح الشركات البالغ 28.8 في المائة كان أعلى بكثير من متوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 18.8 في المائة العام الماضي.
ما الذي تفعله الحكومة حيال ذلك؟
عندما سئل شولز عن هذا في مقابلة تلفزيونية مع قناة زد دي إف في وقت سابق من هذا الشهر، قال المستشار إن الحكومة كانت تنفذ "بوتيرة مذهلة" كثيرا من المشاريع "الوشيكة بشكل ملموس" لتسريع التحول إلى الطاقة المتجددة وتعزيز المعروض من العمالة.
كما أشاد بالطريقة التي تخطط بها شركة إنتل لصنع الرقائق وشركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات لبناء مصانع ضخمة في ألمانيا - مع أنه تم تأمين هذه المصانع فقط بفضل نحو 15 مليار يورو من الإعانات.
يعتقد معظم الاقتصاديين أن برلين تسير في الاتجاه الصحيح عبر محاولة معالجة المشكلات الهيكلية بدلا من توفير حوافز مالية قصيرة الأجل.
قال هولجر شميدنج، كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبرغ الألماني: "تعالج الحكومة بالفعل بعض المشكلات الرئيسة"، مستشهدا بالقوانين المخطط لها لتبسيط الموافقة على التخطيط للاستثمارات ذات الأولوية وجذب مزيد من العمال المهرة من الخارج.
لكن تحالف شولز الثلاثي الحاكم تعرقل أيضا بسبب الاقتتال الداخلي، وكان آخرها عندما استخدم وزير شؤون الأسرة هذا الشهر حق النقض ضد اقتراح قدمه وزير المالية الليبرالي كريستيان ليندنر الذي كان يهدف إلى تحفيز النمو عن طريق منح الشركات عدة مليارات من اليورو سنويا على شكل إعفاءات ضريبية.
هل هناك أي أمل في حدوث انتعاش؟
رغم كل الكآبة، يعتقد بعض الاقتصاديين أن ألمانيا لن تستمر في الأداء الضعيف لفترة طويلة، ويراهنون على أن الصعوبات الدورية التي تواجهها ستتراجع مع انخفاض أسعار الطاقة وتعافي الصادرات إلى الصين.
قال فلوريان هينس، كبير الاقتصاديين في شركة يونيون انفستمنت الألمانية، شركة لإدارة الصناديق: "يمكنني القول إن التشاؤم مبالغ فيه"، وتوقع أن يعود نمو البلد إلى متوسط منطقة اليورو البالغ 1.5 في المائة بحلول 2025.
قد ينتعش إنفاق المستهلكين مع ارتفاع الأجور الألمانية بأكثر من 5 في المائة، بينما من المتوقع أن ينخفض التضخم إلى النصف عند 3 في المائة العام المقبل. قال كرامر من بنك كوميرزبانك: "الأجور الحقيقية المرتفعة هي أحد الأسباب الرئيسة التي تجعلنا نعتقد أنه لن يكون هناك سوى ركود طفيف".
يعتقد البعض أن المشكلات الاقتصادية الحالية ستجبر الحكومة على معالجة سوق العمل الصعبة وإصلاحات جانب العرض التي يمكن أن تطلق حقبة جديدة من الأداء المتفوق، كما فعلت في التسعينيات. قال ستيفان كوثس، مدير معهد كيل للاقتصاد العالمي: "كلما كبرت المشكلات، زاد احتمال حدوث تغيير حقيقي في السياسة".
الآخرون أكثر تشاؤما. فقد قال كارستن برزيسكي، الرئيس العالمي لقسم الاقتصاد الكلي في البنك الهولندي أي إن جي: "البلد بحاجة إلى خطة إصلاح واستثمار شاملة. لكننا بعيدون كل البعد عن ذلك".