ليس القلق أن يصبح الحاسوب مثلنا ولكن القلق أن نصبح مثله
حذر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، صدر يوليو الماضي، بعنوان "التكنولوجيا في المجال التعليمي: من يقودها؟" من مخاطر الاستخدام المفرط للتكنولوجيا في المدارس، فالتركيز ينبغي أن يكون على نتائج التعلم لا على الموارد الرقمية. وذلك لأن توزيع أكثر من مليون جهاز حاسوب محمول -في دولة البيرو مثلا- دون دمجها في أصول التدريس، لم يحسن التعلم. ونبه إلى إمكانية المفعول العكسي لتكنولوجيا، متى أسيء استخدامها.
طبعا، لا يعني ذلك بحسب المسؤول عن التقرير "إنكار أن الجميع، بما في ذلك التلاميذ، عليهم أن يتعلموا التكنولوجيا، لأنها جزء من مهاراتنا الأساسية". إلا أن إخضاع الأمر للضبط والمراقبة والتوجيه بات مسألة ضرورية اليوم قبل الغد، فأحدث استطلاع أجرته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يشير إلى "وجود صلة سلبية بين الاستخدام المفرط لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأداء الطلاب في المدارس والمؤسسات التعليمية".
في الأعوام الأخيرة، تعاقب الدراسات والتقارير التي تدق ناقوسا، على أكثر من صعيد، مطالبة بالاحتراز مما قد يكتنف إفراط الناشئة في الاستعانة بالتكنولوجيا أثناء التعلم. يبقى كتاب "أيها القارئ: عد إلى وطنك - الدماغ القارئ في عالم رقمي" (2018) للباحثة وعالمة الأعصاب الأمريكية ماريان وولف، المترجم حديثا إلى العربية، ضمن مبادرة إثراء عن دار أدب للنشر والتوزيع في الرياض (2021)، من أهم الأبحاث المنجزة بهذا الشأن، لكونه عصارة رحلة بحثية استغرقت سبعة أعوام من أجل وصف كيفية تعلم الدماغ للقراءة، على مدار تاريخه الذي يقارب ستة آلاف عام.
كانت الهواجس حول الثقافة الرقمية وتأثيرها على مهارتي القراءة والكتابة لدى الإنسان، بوصفهما أهم إنجازات الوراثة اللاجينية، دافع الكاتبة وراء البحث في الموضوع، فالقراءة التي كانت دوما الحافز التحويلي للتطور الفكري لدى الأفراد والحضارات تغيرت، إن على مستوى النوع أو الكم أو الغاية، بعد الالتحاق بعوالم الثقافة الرقمية، ما يعيد إلى الواجهة النقاش حول الدماغ والقراءة.
منطلق تجدد هذا السجال حقيقة مفادها مبدأ المرونة في هيكلة الدماغ البشري، ففعل القراءة -كعملية خارجية- يسهم في حث الدماغ بفضل مرونته العالية. ما يشرع الباب لأسئلة مؤرقة من قبيل: مدى قدرة القارئ على توسيع مداركه اعتمادا على حوامل رقمية بدل الوسائط المطبوعة التي يلعب فيها المعطى الزمن دورا محوريا؟ وهل من سبيل لضمان تشكل العمليات المعرفية البطيئة مثل التفكير النقدي والتفكير الشخصي والخيال والتعاطف... باستخدام الوسائل الرقمية عند القراءة؟ وهل يشكل اعتماد الصغار المتزايد على خوادم المعرفة تهديدا لهم ولرغبتهم في التفكير والتخيل؟
تحدث الفيلسوف اليوناني أرسطو عن حيوات المجتمع الجيد الثلاث، فقسمها إلى حياة المعرفة والإنتاج، وحياة الترفيه، وحياة التأمل. هذه الأخيرة مهددة بالاندثار في العصر الراهن، من منظور المؤلفة، التي ترى أن إنسان الحقبة الرقمية على وشك فقدان التأمل في ثقافته، وذلك نتيجة حتمية لقاعدة استمرار انقطاع الانتباه، خلال فترات زمنية قصيرة، المنافية مع التفكير العميق. ما يعدم أي فرصة لتغذية المخزون المعرفي، متى رغب المرء في التطور بالمعرفة والارتقاء بها.
تتجه القراءة الرقمية إلى إفراغ العملية من أي دلالة سوى التصفح، فـ"التصفح هو الوضع الطبيعي الجديد في قراءتنا الرقمية". وضع دفع بخبراء إلى تشبه أصحاب العيون المشتتة -قراء القرن 21- بطائر الطنان الذي يتبع الرحيق من زهرة إلى أخرى. وذهب ديفيد أولين، مؤلف "فن القراءة المفقود" أبعد من ذلك، حين أكد أن القراءة على اللوح لساعات طويلة يتيح سرعة معالجة فائقة للمعلومات، ما يسهم في تشكيل، ولو عن غير قصد، الدماغ بناء على قراءاتنا الرقمية.
لا مراء في أن التغييرات الملحوظة في جودة الانتباه وثيقة الصلة بالتغييرات المحتملة في الذاكرة. ففكرة الانغماس الطوعي في عالم القراءة، مع ما يعنيه ذلك من معجزة اتصال ابتكارية، تمارس في خلوة مع الذات، باتت مهددة بفعل الثقافة الرقمية التي تجسد واقعيا مقولة الفيلسوف الألماني والتر بنجامين: "نلاحق الحاضر بإصرار، مع أن معلوماته تمر عابرة ولا تصمد أو تتجاوز لحظتها".
كتب الصحافي الإيطالي إيتالو كالفينو: "من نكون، إن لم كن مزيجا من الخبرات والمعلومات والكتب التي قرأناها! كل حياة هي موسوعة، مكتبة"، وتحدث دبلوماسي إيطالي إلى مكيافيلي عن علاقته بالكتب قائلا: "لست خجلا من حديثي معهم، أو من سؤالي لهم عن أسباب أفعالهم، كما أنهم يتجاوبون معي بلطف بالغ، فقد تمر أربع ساعات ولا يصيبني الملل أبدا، أنسى كل مشكلاتي، لا أخشى الفقر، ولا أخاف الموت، أسلم نفسي لهم بالكامل".
أشياء كثيرة مهددة بالزوال، في غمرة الانغماس في الثقافة الرقمية، فالتعاطف بحسب شيري توركل، الأكاديمية في جامعة هارفرد، محدود في أوساط الجيل Z، لعدم القدرة على التنقل في عوالم الإنترنت دون فقدان مسار علاقتهم المباشرة وجها لوجه. وتخشى الروائية جين سمايلي من تعرض الخيال للتهديد، حيث تقول: "لن تتمكن التكنولوجيا وحدها من قتل الرواية... لكن تهميش الرواية قد يفعل... وعندما يحدث ذلك سيتعرض المجتمع لوحشية الناس وقسوتهم، ولن يكون بمقدورنا فهم الآخر أو التعاطف معه".
لكل ذلك، تحث المؤلفة في رسائل الكتاب التسع على أهمية ممارسة القراءة بأساليبها التقليدية، ولا سيما بالنسبة للأطفال، حيث تؤكد أن الطفل في بدايات عالم القراءة المثالي، ينبغي أن يكون وفيا لثقافة المطبوعة مقابل اتصال محدود بالأجهزة الرقمية. وإلا فالمصير ما قال أحدهم يوميا: "لا يجدر بنا القلق كثيرا من أن يصبح الحاسوب مثلنا، ولكن علينا أن نقلق مما إذا كنا سنصبح مثله".