مؤشرات قياس الأداء بين التمكين والعطاء

لعل من أبرز الكلمات المأثورة في مجال القياس والمؤشرات، تلك التي قالها اللورد كالفن Lord Kelvin، واسمه الأصلي وليم تومسونWilliam Thomson، وهو عالم اسكتلندي، عاش في القرن الـ19، وهو صاحب مقياس درجة الحرارة المطلقة، وصاحب منجزات علمية أخرى. يقول كالفن "عندما يكون بإمكانك قياس ما تتحدث عنه، فهذا يعنى أن لك دراية بمضامينه، وعندما لا يكون بإمكانك قياس ذلك، فهذا يعني ضآلة هذه الدراية". ويضيف كالفن إلى ما سبق قوله "إذا لم تستطع قياس أمر ما فهذا يعني أنك لن تستطيع تطويره". ولعلنا نرى في هذين القولين الارتباط المتين الذي يراه كالفن بين عمق المعرفة في موضوع ما من جهة، وبين التمكن من التعبير عنه بمؤشرات كمية محددة من جهة أخرى. وبالطبع يؤدي التعمق المعرفي المقاس بالمؤشرات في موضوع ما إلى تمكين صاحبه من تحديد متطلبات تطوير هذا الموضوع نحو الأفضل.
تنتشر مؤشرات القياس في تقييم الموضوعات العلمية، وفي دراسة الخصائص المالية والاقتصادية والاجتماعية، وفي التعرف على مستويات أداء مختلف الوحدات الاستراتيجية التي تتضمن الفرد، ثم الأسرة، فالمنظمة، والمدينة، والدولة، بل حتى العالم بأسره. وحرصت مختلف أفكار جودة أداء المنظمات على التركيز على وضع مؤشرات لتقييم أدائها، والتعرف على مكامن القوة ومواطن الضعف في هذا الأداء من أجل العمل على التطوير نحو الأفضل في المستقبل. وطرحنا على هذه الصفحة، في 13 أبريل 2023 مقالا حول الأساليب المتجددة لتطوير جودة الأداء، واتفاقها جميعا على الحاجة إلى وجود مؤشرات لقياس الأداء لدى الوحدات الاستراتيجية من أجل تطويرها، وتعزيز قدرتها التنافسية. وتضمنت هذه الأساليب أسلوب الأبعاد الستة، وأسلوب مؤشرات الأداء الرئيسة، وأسلوب الأهداف والنتائج الرئيسة، وأسلوب الحوار ورد الفعل والاتفاق، وغير ذلك.
يطرح هذا المقال مسألة كيفية وضع مؤشرات لقياس أداء مختلف الوحدات الاستراتيجية، ويعمل على ذلك من خلال أربع مراحل رئيسة: أولها، مرحلة التعريف بالوحدة الاستراتيجية المستهدفة. وتأتي بعد ذلك مرحلة تحديد هذه المؤشرات التي تسمح بتقييم حالة المؤسسة، في إطار الغاية المنشودة. ثم تتقدم مرحلة تقييم حالة المؤسسة على أساس المؤشرات المطروحة. وتبرز أخيرا مرحلة قراءة نتائج تقييم المؤشرات، التي تحقق الفهم المعزز بالقياس، كما يريده كالفن، حيث تستخرج التوصيات من هذا الفهم لتصب في توجيه التطوير المستقبلي، وتعزيز القدرة على المنافسة.
إذا بدأنا بالمرحلة الأولى، لوجدنا في التعريف بالوحدة الاستراتيجية، مهما كبر حجمها أو صغر، ثلاثة أمور رئيسة. الأمر الأول هو تحديد الإمكانات المتوافرة، بما في ذلك الإمكانات المادية، والبشرية، والمعرفية، والإدارية، وغيرها. ويضاف إلى ذلك تحديد التوجهات المطلوبة، بما في ذلك توجهات الدور المنشود للوحدة الاستراتيجية، وإنجازاته المستهدفة، إلى جانب المبادئ الأخلاقية، والمسؤولية الاجتماعية المرتبطة بهذا الدور، التي تعطيه قيمة معنوية تعزز قيمة إنجازاته الفعلية. أما الأمر الثاني فهو النشاطات والإجراءات والأعمال التي تقوم بها الوحدة لأداء دورها، في إطار المسؤولية والالتزام بالمبادئ. ويأتي الأمر الثالث مكملا لسابقيه، ومركزا على طرح الإنجازات المستهدفة، وما يمكن أن تقدمه الوحدة الاستراتيجية من عطاء.
تستند المرحلة الثانية، أي مرحلة تحديد المؤشرات، إلى مخرجات المرحلة الأولى، أو بالأحرى إلى التعريف بالمؤسسة بما يشمل إمكاناتها وتوجهاتها، ونشاطاتها المطلوبة، ومعطياتها المستهدفة. يمكن في هذا الإطار النظر إلى المؤشرات من جانبين، جانب يمثل تمكين المؤسسات من العطاء، وجانب يركز على العطاء ذاته. في جانب التمكين تبرز الإمكانات المادية والبشرية والمعرفية والإدارية المبذولة في الوحدة الاستراتيجية، وتضاف إلى ذلك الجهود المبذولة في النشاطات والأعمال المختلفة. ولا بد للمؤشرات في هذه المرحلة من التعبير عن مختلف عناصر هذا الجانب وتحديد قيمة التمكين. أما في جانب العطاء فتظهر الإنجازات المستهدفة، وهي التي تمثل قيمة العطاء الناتج عن قيمة التمكين.
تقدم المرحلتان السابقتان الأولى والثانية قاعدة معرفية لفهم الوحدة الاستراتيجية والعمل على تقييمها. ففي الأولى توصيف عام، وفي الثانية تحديد لوسائل الفهم والتقييم. وهكذا تأتي المرحلة الثالثة لتقضي بالعمل على قياس حالة الوحدة الاستراتيجية في جانبيها التمكين والعطاء، تبعا للمؤشرات المحددة لكل منهما. فقياس مؤشرات التمكين للوحدة الاستراتيجية، يبين حالة الاستثمار والجهد المبذول من أجلها. وقياس مؤشرات العطاء، يظهر حالة الفعل والإنجاز الذي تتمتع به. ثم تعطي نسبة حصيلة مؤشرات العطاء إلى حصيلة مؤشرات التمكين مدى كفاءة الوحدة الاستراتيجية المطروحة.
ونصل إلى المرحلة الرابعة، أي مرحلة التوصيات، حيث تعمل هذه المرحلة على تحليل قياسات المؤشرات، وتحديد مكامن القوة، وحالات الرضا، ومواطن الضعف فيها، إضافة إلى روابط التفاعل والتأثير فيما بين هذه المؤشرات. ويحتاج هذا الأمر إلى قيم مرجعية لكل من المؤشرات المطروحة، تعرف عادة بعلامات المجلس، حيث يتم على أساسها قراءة حالة المؤشر. كما يتطلب هذا الأمر أيضا فهم مدى تأثير مؤشرات التمكين في كل من مؤشرات العطاء. وحصيلة كل ذلك استيعاب عملي مقدر كميا للوحدة الاستراتيجية وأدائها، مع نظرة إلى آفاق تطويرها.
إذا استطاع كل فرد منا تطبيق ما سبق على عمله كوحدة استراتيجية، فإنه بذلك يتعرف على عناصر التمكين التي يحظى بها، وعلى جوانب العطاء التي يقوم بتقديمها، وكذلك كفاءة العمل التي يتمتع بها، إضافة إلى آفاق التطوير المستقبلي التي يحتاج إليها. أي أن الإنسان الفرد، يصبح بذلك، أفضل أداء، وأعلى قدرة على الإسهام في التنمية وتقديم قيمة مؤثرة للمجتمع من حوله. وإذا انتقل هذا التطبيق من مستوى الفرد إلى مستوى المنظمات العامة والخاصة، فإن أمر التمكين والعطاء والكفاءة وتطوير العمل نحو التميز يزداد اتساعا، ليزداد بذلك إسهام المؤسسات في الارتقاء بالمجتمع نحو الأفضل. نحتاج إلى الإنسان القادر على إدارة إمكاناته بكفاءة وفاعلية، وإلى المنظمات القادرة على ذلك أيضا من أجل بناء مجتمع مستقبلي أكثر قدرة على الإنجاز والتميز والتنافس مع المجتمعات الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي