ماذا في دليل الجاهزية الحكومية للذكاء الاصطناعي؟
عندما نشر مقال "الذكاء الاصطناعي يقرع أبواب العالم" على هذه الصفحة في 20 يوليو الماضي، كان هُناك اعتراض على عنوان المقال يقول "الذكاء الاصطناعي لا يقرع الأبواب الآن، لأنه بات في عقر الدار". ولا شك أن في هذا الاعتراض مُحق في ذلك، خصوصاً بعد أن أدهش برنامج المُثقف الذكي الآلي ChatGPT، العالم بإمكاناته، لكن ما هو متوقع في المستقبل من الذكاء الاصطناعي يفوق بكثير ما تم حتى الآن على أرض الواقع. والاستثمارات في هذا الشأن حدث ولا حرج. ومن أمثلة ذلك مليارات الدولارات التي تستثمرها شركة مايكروسوفت في شركة الذكاء الاصطناعي المفتوح صاحبة البرنامج ChatGPT. وليس هذا البرنامج وحيدا فريدا في العالم، بل إن هناك مخرجات منافسة من حوله، فضلا عن تطبيقات مختلفة أخرى.
ولأن المستقبل يصنع اليوم، تبرز مسألة الجهود التي تبذل اليوم في صناعة مستقبل الذكاء الاصطناعي، وعلى رأسها الدور الذي تقوم به الدول، لأن هذا الدور هو الموجه والراعي لشؤون المستقبل. وذكرنا في مقال سابق حقيقة، تم رصدها حديثا، تقول إن هناك خططا وطنية للذكاء الاصطناعي في 62 دولة من دول العالم، بينها المملكة. وذكرنا أيضا أن هناك أدلة دولية لتقييم حالة الدول المختلفة بشأن الذكاء الاصطناعي، بين أبرزها دليل الجاهزية الحكومية للذكاء الاصطناعي، الذي يصدر دوريا عن مؤسسة تدعى تصورات أكسفورد، وسنتحدث فيما يلي عن هذا الدليل، ونطرح ما يقدمه من أفكار يمكن من خلالها تقييم حالة الدول في الذكاء الاصطناعي، والتعرف على مكامن القوة ومواطن الضعف فيها، وآفاق التوجهات المستقبلية بشأنها.
يتكون الدليل من "ثلاثة" أعمدة، هي: عمود الحكومة، وعمود التقنية، إضافة إلى عمود البيانات، وإمكانات البنية الأساس. ولعلنا في طرح هذا التكوين نبدأ بعمود الحكومة، الذي يركز على تمكين الدولة للذكاء الاصطناعي، ويتفرع في هذا الإطار إلى أربعة أبعاد: يهتم البعد الأول، بالحاجة إلى وجود رؤية حكومية بشأن الذكاء الاصطناعي، تتمثل في خطة للتعامل مع هذا الذكاء والاستفادة منه. ويركز البعد الثاني، على حوكمة الذكاء الاصطناعي، والأخلاقيات المرتبطة بهذه الحوكمة، ويتمثل ذلك في وضع نموذج لأخلاقيات التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وطرح تشريعات تختص بنماذج الأعمال الرقمية، وحماية البيانات، والمحافظة على خصوصيتها، وحماية الأمن السيبراني، إضافة إلى الاهتمام بشؤون مساءلة أصحاب العلاقة عند الحاجة.
ونأتي إلى البعد الثالث لعمود الحكومة، ألا وهو بعد الإمكانات الرقمية المتوافرة لدى الحكومة التي يعبر عنها بمستوى الخدمات الإلكترونية الحكومية، ومستوى البنية الرقمية المتوافرة، إضافة إلى مدى الاهتمام الحكومي في الاستثمار في التقنيات الحكومية. ونصل إلى البعد الرابع للدليل، وهو بعد التكيف الذي يركز على الفاعلية الحكومية، واستجابتها للمتغيرات، إضافة إلى مسألة البيانات المفيدة لخدمة المجتمع.
وننتقل إلى عمود التقنية، ويتضمن ثلاثة أبعاد: يهتم أولها بمستوى نضج القطاع التقني، المتمثل بعدد المؤسسات المتميزة الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وعددها في المجالات التقنية الأخرى، وقيمة تجارة تقنيات المعلومات والاتصالات للفرد، بما يشمل جانبي الوسائل من جهة، والخدمات من جهة أخرى، إضافة إلى حجم الإنفاق على البرمجيات. ويركز البعد الثاني، على إمكانات الابتكار، ويعبر عن ذلك بالإنفاق على البحث العلمي، والنشر العلمي، وتوافر رأس المال الجريء، واستثمار الشركات في التقنيات الحديثة، إضافة إلى متطلبات إدارة الأعمال، والقدرة على المنافسة. ونأتي إلى البعد الثالث لهذا العمود، الذي يعنى بالثروة البشرية، حيث يراها متمثلة في خريجي مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات من الذكور والإناث، ومستوى جودة التعليم في هذه المجالات، إضافة إلى المهارات الرقمية، ومدى المشاركة في الشبكة الاجتماعية للمبرمجين.
ونصل إلى العمود الثالث للدليل، الذي يركز على البيانات والبنية الأساس، وله في ذلك ثلاثة أبعاد: أول هذه الأبعاد هو بعد البنية الأساس التي تتمثل في بنية الاتصالات، بما يشمل كلا من بنية النطاق العريض، وبنية جوال الجيل الخامس، إضافة إلى الخدمات الحاسوبية السحابية، وتبني التقنيات الحديثة. أما البعد الثاني، فهو بعد توافر البيانات الذي ينظر إلى حالة حوكمة البيانات، والبيانات المفتوحة، والبيانات الإحصائية، وحجم النفاذ إلى كل من الإنترنت، والاشتراك في الهاتف الجوال. ونصل إلى البعد الثالث الذي ينظر إلى مدى تمثيل البيانات لواقع حياة الإنسان، ويعبر عن ذلك بتكاليف النفاذ إلى الإنترنت نسبة إلى مجمل الإنتاج المحلي للفرد، إضافة إلى الفجوة في النفاذ إلى الإنترنت بين الذكور والإناث.
هكذا نجد أن لأعمدة الدليل الثلاثة، عشرة أبعاد رئيسة. وتم التعريف بهذه الأبعاد، كما وردت فيما سبق، على أساس وجود مؤشرات دولية تعبر عنها. وبالفعل تم اختيار 39 مؤشرا دوليا، بعضها مؤشرات وأدلة صادرة عن منظمات تابعة للأمم المتحدة، مثل البنك الدولي، واليونسكو، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وغيرها، وبعضها صادر عن مؤسسات دولية مستقلة، مثل المنتدى الاقتصادي الدولي، والموقع الاجتماعي للمبرمجين، ومؤسسة تقييم الجامعات S، وغيرها. وقد تضمن الدليل في إصداره الأخير في نهاية 2022، تقييما وتصنيفا لـ181 دولة على أساس المؤشرات المطروحة. وكان المركز الأول من نصيب أمريكا، لكن ليس في جميع الأعمدة، ولكن في حصيلة التقييم. وجاءت المملكة في المركز الـ39، على أساس هذه الحصيلة، متقدمة في ذلك على دول مثل روسيا وتركيا.
وإذا كان هناك من رأي في هذا الدليل، فهو أنه مصمم على أساس ما هو متوافر من أدلة ومؤشرات على المستوى الدولي. وهذه نظرة عملية توفر لأصحابها مشقة وضع مؤشرات جديدة، والعمل على تقييم الدول على أساسها. تضاف إلى ذلك مسألة عدم الفصل بين ما هو تمكين للذكاء الاصطناعي في الدول المختلفة، وما هو عطاء تقوم بتقديمه، وقد يكون ذلك مبكرا لأن مثل هذا العطاء لا يزال يفتقر للتقييم الدولي في كثير من جوانبه.