إدارة القيمة .. والعمل عن بعد
تحمل كلمة إدارة معنى ديناميا متحركا يتمثل في عمل يسعى إلى الاستفادة من المعطيات المتاحة، في توجيه الإمكانات المتوافرة، نحو نشاطات تحقق أهدافا مطلوبة بفاعلية وكفاءة، وجودة متجددة، ورشاقة تستجيب للمتغيرات. والإدارة مطلوبة في حياتنا على مختلف المستويات، وعلى رأسها المستوى الشخصي، حيث يسعى الإنسان إلى توجيه قدراته الشخصية نحو تحقيق طموحاته، ومستوى المنظمة، حيث تستطيع الإدارة الاستفادة من مصادرها وإمكاناتها في توجيه نشاطاتها نحو تحقيق أهدافها. ويسهم عطاء الإدارة على هذين المستويين في تفعيل التنمية على مستوى المجتمع، بل على المستوى الدولي أيضا.
يتم ربط الإدارة في أحيان كثيرة بقضايا محددة، تعطي معاني تعبر عن أمور مهمة في حياتنا. فهناك ربط للإدارة بالمعرفة، حيث تقضي هذه الإدارة بتنشيط الإمكانات المعرفية، والسعي إلى الاستفادة من القيمة المتميزة التي تقدمها على أفضل وجه ممكن. ومن أشهر من تحدث عن إدارة المعرفة، وقام بتطبيقها على أرض الواقع "لويس بلات" الرئيس الأسبق لشركة "هيوليت باكارد HP".
هناك أيضا ربط للإدارة بالزمن، حيث تقوم هذه الإدارة بتنظيم الزمن الذي يمثل حياة الإنسان، بما يؤدي إلى تحسين استخدامه والاستفادة منه، في دعم الإنتاجية والتمتع بالقيمة الناتجة عن ذلك. ومن أشهر رواد إدارة الزمن، الذين أسهموا في إيجاد إحدى الأدوات التي تعززها، الجنرال دوايت أيزنهاور الذي كان قائدا لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية 1945، ثم كان رئيسا لأمريكا في الفترة 1952 ـ 1960.
هناك، إضافة إلى ما سبق، ربط للإدارة بالغضب، بمعنى السعي إلى كبح جماح الغضب والتخلص من تداعياته السيئة لمصلحة المحافظة على حكمة العقل، من أجل الحد من سلبيات الغضب وخسائره، والاستفادة من قيمة معطيات الهدوء والحكمة. ويبرز في إطار إدارة الغضب، موضوع الذكاء العاطفي الذي يسعى إلى توجيه مشاعر الإنسان نحو سلوك قويم تجاه ذاته، وتجاه الآخرين. ومن أشهر من طرح هذا الموضوع كل من بيتر سالوفي، رئيس جامعة ييل، والكاتب دانيال جولمان.
لا يقتصر ربط الإدارة بقضايا الحياة على ما ورد في الأمثلة السابقة، بل إن في الإدارة نشاطات تفرز قيمة يحتاج إليها جميع مجالات الحياة، وتتعاظم هذه القيمة مع زيادة كفاءة هذه النشاطات وفاعليتها ورشاقتها، وسعيها إلى التطوير المستمر. ونظرا إلى أهمية القيمة، في حياة الإنسان، فقد كانت الإدارة دائما وسيلة رئيسة من وسائل التطوير الاقتصادي، وتعزيز دوره الاجتماعي والإنساني، في مختلف المجالات.
يتميز العصر الذي نعيش فيه باستخدام التقنية الرقمية والإنترنت وتطبيقاتها في بناء العالم السيبراني، وهو عالم متجدد يحيط معلوماتيا بالعالم المادي، ويسمح بتخزين المعلومات بحجوم كبيرة في وسائل صغيرة محدودة التكاليف، إضافة إلى معالجتها ونقلها عبر المسافات بسرعات غير مسبوقة، فضلا عن أداء مهمات متجددة تتعامل مع المسائل المعقدة بذكاء متنام واسع الحدود. ونظرا إلى اعتماد الإدارة على المعلومات، فقد أعطاها ذلك وسائل حيوية تمكنها من تطوير أدائها، في الجانب المعلوماتي الرقمي من نشاطاتها. ويؤدي ذلك إلى عطاء جديد يتمثل في توفير في القيمة، وفي إعطاء قيمة جديدة غير مسبوقة، حيث تبرز من خلال ذلك معطيات تسهم فيما يعرف بالاقتصاد الرقمي.
يبرز العمل عن بعد، في إطار العالم السيبراني، كوسيلة مهمة لتطوير الإدارة، وتعزيز ما توفره من قيمة، تستطيع الإسهام في الاقتصاد الرقمي. ولعلنا نحاول، في هذا الإطار، وضع بعض النقاط على الحروف من خلال المقارنة بين موظفين يتمتعان بطبيعة عمل معلوماتي متماثلة، أحدهما يعمل من مكتبه في المؤسسة التي ينتمي إليها، والآخر يعمل عن بعد من المنزل عبر النظام السيبراني لمؤسسته، وكلاهما يقدم لمؤسسته القيمة الفاعلة المتوقعة من عمله.
على الموظف الأول، العامل من مكتبه في المؤسسة، أن يخرج من منزله قبل بدء العمل بنحو ساعة من الزمن، لينتقل بعد ذلك، عبر سيارته، أو عبر وسائل النقل الأخرى، إلى مكتبه في مقر مؤسسته، باذلا في سبيل ذلك زمنا ومالا في التنقل، إضافة إلى توترات الازدحام التي يواجهها، وما قد تؤدي إليه من غضب ومعاناة، فضلا أيضا عن التلوث البيئي الذي تسببه وسائل النقل، وازدحامها، في شوارع أي مدينة رئيسة. وعند انتهاء الدوام، على هذا الموظف، أن يعود من مؤسسته إلى منزله عبر الطريق ذاته باذلا مزيدا من المال والزمن، ومعرضا للتوتر، وملوثا للبيئة أيضا.
إذا نظرنا إلى الموظف الثاني، نجد أنه يبدأ عمله موفرا قيمة تكاليف التنقل، وقيمة الزمن الضائع، وقيمة معاناة التوتر، وقيمة تلوث البيئة، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من إضعاف لقدرة أبناء المدينة على مقاومة الأمراض، وحاجتهم إلى العناية الصحية التي يمكن أن تتضمن تكاليف في النفقات وفي الزمن أيضا. وإذا أردنا أن نجري تقييما أوليا للتوفير الذي يحققه هذا الموظف في تكاليف النقل والزمن فقط، لوجدنا أن مجمل تكاليف النقل يمكن أن تبلغ 50 ريالا ذهابا وإيابا لكل يوم عمل، إضافة إلى فقدان ساعتين من الزمن. ولأن الموظف يعمل خمسة أيام في الأسبوع، وله إجازة سنوية مدتها 30 يوم عمل، فإن تكاليف النقل السنوية، لـ230 يوما في العام، تصبح 11.5 ألف ريال، وتكاليف الزمن 460 ساعة، أي ما يعادل 57.5 يوم عمل، بفرض أن هناك ثماني ساعات في يوم العمل الواحد.
يمكن القول بناء على ما سبق، إنه إذا كان لدينا مليون موظف يتمتعون بطبيعة عمل معلوماتي، فإن العمل عن بعد يمنح -على مستوى المجتمع- وفرا في المال قدره 11.5 مليار ريال، ووفرا في الزمن قدره 57.5 مليون يوم عمل. ويمثل ذلك جزءا مما يمكن أن تقدمه الإدارة للاقتصاد الرقمي، عبر استخدام وسائل العالم السيبراني. ولعل في هذه النظرة الأولية دعوة إلى جميع المؤسسات، لدراسة إمكان تحويل أعمالها المعلوماتية إلى العمل عن بعد، وتبني الإنجاز معيارا رئيسا للأداء الوظيفي للعاملين فيها.