بين اللغة والفن .. الجمال قادر على أن يطورك ويجعل منك معروفا

بين اللغة والفن .. الجمال قادر على أن يطورك ويجعل منك معروفا
من لقاء طارق القرني في ستوديو سدرة للفنون.
بين اللغة والفن .. الجمال قادر على أن يطورك ويجعل منك معروفا
طارق القرني
بين اللغة والفن .. الجمال قادر على أن يطورك ويجعل منك معروفا
الجمال هو نوع من الإبداع الجنوني يحدث مرة واحدة فقط.

حروف اللغة ليست مجرد رسم لإيصال المعنى، وإنما سبيل لإيصال المشاعر، تحمل خلف تكويناتها جمالا غير معهود، عبر الثنائية بين الحقيقة والمجاز، التي قد تحدث لمرة واحدة فقط لا تتكرر، فنحن نتلذذ بالشيء الذي قيل أول مرة، ونظل بعدها نبحث عن الجمال بطريقة جنونية، وربما إدمانية.
في هذا الإطار الفلسفي العميق، يطرح الباحث المتخصص في المناهج النقدية واللسانيات طارق بن سعد القرني تساؤلات في معنى الجمال بين اللغة والفن، أجاب عنها في لقاء شهده استوديو سدرة للفنون في حي جاكس في الدرعية، ضمن مبادرة الشريك الأدبي التابعة لوزارة الثقافة، يقودها سؤال جوهري، هل يمكن أن يقود الجمال إلى العذاب؟
الجمال إبداع جنوني
لا يحرص الباحث طارق القرني على تعريف الجمال، لأنه إن فعل لجعله محدودا، لكنه يتصوره لكي يقترب من مفهومه وتعريفه، ويرى أن مفهوم الجمال هو جمع بين الذات والموضوع بعد تشبع الإدراك بما يخالف المعهود الذهني، حيث يميل إلى تقسيم الذات في مفهومه إلى قسمين، الذات المنصرفة إلى الأنا (الجوهر والمبدأ والحقيقة)، والذات المنصرفة إلى الآخر أو الخارج.
الجمال هو نوع من الإبداع الجنوني، بالمعنى الذي قال فيه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، أي توجد من العدم شيئا ليس موجودا فيه، والجمالية في العمل الفني واللغة - كما يعتقد القرني - تحدث مرة واحدة فقط، ولا يمكن أن تعاد أو تتكرر مرة أخرى، لكيلا تكون جزءا من الذاكرة منبع المعهود الجمعي، فنحن نتلذذ بالشيء الذي قيل أول مرة، فالجمالية من الوجود لا من الموجود، والذاكرة موجود حسي خزن في المفارق النفسي، كما أن الجمال لا يتكون إلا بعد القلق الوجودي، وما دام يأتي مرة فقط فالفنان يبحث عن الجمال بطريقة جنونية وإدمانية دوما.
أما اللغة، فتعبر عن جماليتها في إيجاد جمل غير معهودة سابقا، مثل جملة أو كلمة عشنا معها، وخرجنا عن المعهود وفارقنا الوجود بسببها، فيصبح الجمال في هذه الحالة متصل بالوجود لا بالموجود، أي أنه متصل بالزمان لا بالمكان، والزمان هنا تجربة نفسية لدى الإنسان تجلت في الوجود، ولهذا يسافر الإنسان بالكلمات عبر الزمن، ونرى ذلك في أبسط الأمور، مثل زيارتك بيت قديم كنت تسكنه، ستجد أنك ستسافر بالروح عبر أماكن بعيدة جدا، في الذكريات مثلا، ولعل ذلك ما يجعل الإنسان يبكي أحيانا عندما يرى بيته القديم بما يحمله من ذكريات.
ويلفت طارق القرني في هذا السياق إلى أن "الجمال لا يمكن أن يكون جزءا من الذاكرة، وإنما يتجاوزها، فالذاكرة عبارة عن موجودات ومعهودات يعهدها الإنسان، أما الجمال فمتجاوز للمعهود كما أسلفت، يصبح معها الإنسان تواقا باستمرار إلى اللحظة الأولى، لحظة ليست موجودة في الذاكرة ولكنها حركت كل ما في داخله، ويتعامل معها تعاملا داخليا إدراكيا، فيصبح بهذه الطريقة متفاعلا معها، وجامعا بين ذاته وبينها، ولا يستطيع التعبير عنها".
دهشة أم كلثوم من عازف النايالجمالية في اللغة تستند على الثنائية بين الحقيقة والمجاز، كأن نقول شيئا ولكننا نقصد شيئا آخر يعرفه المقصود، أي فكرة الرمزية، بمعنى أننا لا نريد أن يفهمنا عبر اللغة إلا شخص ما.
وكذلك الأمر في الموسيقى، حيث تكون اللغة هنا الصوت والحركة، مدللا في حديثه على قصة عازف الناي مع الراحلة أم كلثوم في إحدى حفلاتها الغنائية المصورة، التي خرج فيها العازف عن المعهود والعزف المتفق عليه بمقطوعة أخرى، لثوان معدودة، ورغم صلابة وصرامة كوكب الشرق مع فرقتها، إلا أنها تلذذت بما فعله عازف الناي، في خروج (صوتي حركي) جمالي لن يتكرر، ولو فعله أكثر من مرة فلن تحدث الدهشة.
وهنا يطرح القرني فكرة، هل يمكن أن يقود الجمال إلى العذاب؟
ويقصد بحديثه العذاب النفسي، لا الألم الجسدي، ويجيب بأن الإنسان يبحث باستمرار عن عودة هذه اللحظة، يكرر الأطروحة ذاتها التي طرحها لكنه لا يجد فيها الجمال ودهشته الأولى، ما يجعله يتجه إلى فكرة الإدمان على هذا الوضع، سواء كان لغويا عن طريق كثرة الكتابة والكلام والإلقاء، حتى يصل إلى تلك اللحظة، والفن كذلك الأمر، أيا كان اتجاهه الفني، في الموسيقى والعمارة، وحتى أعظم أنواع الفنون "الرسم".
ويتابع طارق القرني بأن الإنسان داخليا يريد أن يقبض على هذه الفكرة التي تلذذ بها وهزته، ويستمر في مسعاه حتى يجد اللحظة المنتظرة، لكنه لا يعرف متى وأين ستأتي، لكنها حينما تأتي تنسيه الفكرة الأولى، بمعنى تأجيل الموجود وليس محوها كليا.
ولعل تلك الفكرة هي ذاتها التي يطرقها "الثرثار"، كثير الكلام، فهو يفعل ذلك جماليا، بمعنى أنه يبحث عن مفقود، يبحث عن الجمال، وفي داخله فراغات يبحث عما يعبئها من غير المعهود، ولو عبأها بما هو معهود لزادت الفراغات داخله.
معايير الجمال
هل يمكن أن يكون الجمال معياريا؟ من حيث معرفة الصح من الخطأ، أو الحسن من القبيح؟
لا يوافق القرني على هذه المعايير جملة وتفصيلا، فالمعيارية - على حد تعبيره - ستجعلنا أمام شيء لا يمكن الاتفاق عليه، وإن كان الجمال معياريا سيجعل الإنسان يتسلط على غيره، يقول له هذا جميل وهذا قبيح، من حيث القواعد المطبقة على الجمال.
ويشير في حديثه المسترسل إلى أن من يدمن مواقع التواصل الاجتماعي لن يستحضر الجمال ويشعر به، لأنه سيصبح منغمسا في المحسوس أو المعهود، ولن يخرج عن المعهود وفكرة الجمالية، التي تقضي بأن تفارق الفكرة التي اعتادها الناس وأصبحت جزءا من يومهم، وتبحث عن غير المعهود، وأن تشعر بما لا يشعر به غيرك، فكيف تفعل ذلك وأن تدمن هذه اليوميات؟
تبنى الفيلسوف الألماني "كانط" في هذا السياق الجمالي منهجا مفاده أن فكرة الجمال يجب ألا ترتبط بفكرة النفعية، فأنت تتذوق الجمال لأنك تتذوق الجمال وتستشعره، أي تتعامل مع الشيء لذاته، وهو أمر صعب جدا يراه طارق القرني، فمعنى ذلك أنك منفصل عن كل معهود آني، بما يشبه المستحيل.
ويجيب الباحث طارق القرني على تساؤلا منطقيا، كيف أتحرر من الواقع الذي أنا فيه؟ ويرى بأن ذلك يتم عبر ثلاث خطوات، الأولى أن يعي بأن كل إنسان في داخله معلومات لا تحصى، وهذه المعلومات لا بد أن يفرز الصحيح من السقيم فيها، الصحيح هو ما يتوافق معه، وليس المقصود أن يكون صحيحا في ذاته، بل أن تكون المعلومات التي يبني عليها ذاته صحيحة بالنسبة إليه، وسيجد أن كثيرا من المعلومات التي بنى عليها واقعا هي غير صحيحة، ودوره هنا بتصنيفها، هل هي متوافقة معي أم لا؟ وهل تتوافق مع مبادئي؟
ويردف، "ثانيا أن تفهم المعلومة، كثير من الأحداث التي نمارسها في حياتنا لا نعرف لماذا نمارسها؟ لا أفهم لماذا تجعلني سعيدا مثلا؟ وثالثا أن تكون هذه المعلومات صحيحة وأفهمها وأن تكون في موضعها الصحيح، لن تستشعر الجمالية لأنها أدهشتك فقط، أو خارجة عن المعهود فقط، لا بد أن تكون هذه الدهشة متوافقة مع آنيتك"، مبينا "لم نعد نجد شيئا يملؤنا من الداخل، التكرار والملل في كل شيء حولنا، أصبحنا نكتئب فلا نعود إلى أنفسنا، ولم تعد فكرة الجمالية حاضرة بقوة، والتحرر من هذا الازدحام هو السبيل للوصول إلى فكرة الجمالية".
الجمال حينما يسافر عبر الزمن
الأدب الحقيقي الذي يجب أن يكون حاضرا بيننا، هل هو المعبر عن الفكرة أو المعبر عن الوضع الاجتماعي؟ هل يفترض أن أكتب ما يعبر عن فكرة داخلية وتطور من الواقع أم أعبر عما هو منتشر وما يطلبه المشاهد؟ الأغلبية هي من النوع الأخير، لكنه ليس أدبا حقيقيا، على حد تعبير القرني.
ومن واقع علم النفس التطوري حول الجمالية وتطور الإنسان، فإن الجمال قادر على أن يطورك، ويجعل منك معروفا، لأنك اخترت هذا المجال بإرادتك ولست مضطرا، فتجد أحيانا البعض يمارسون مهنة عادية ومتداولة، مثل التصوير، لكنك تجد بعض المصورين مشاهير، استطاعوا أن يكونوا جمالية ما، ويخرجوا عن المعهود، ويسافروا بنا إلى زمن غير الزمن.

سمات

الأكثر قراءة