كريم العراقي .. «حيا ميتا متماسكا»
سموا بجنود الكلمة، يجلسون خلف أحرف اللغة ليعبروا عن حزنهم وحبهم وغضبهم وفرحهم وكل ما يختلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس. هم فرسان الكلمة وعرابو الإحساس الصادق الذي متى فاض قدم أروع ما تكتنزه النفس البشرية من عبقرية، تتجلى في بلاغة الكلمة وجمالية الأسلوب، وإذا خطفنا نظرة سريعة على شعراء العصر الحديث لوجدنا واحدا من أبرز نجومه، تربعوا على القمة، كتبوا في حب الوطن والمرأة والقضايا الاجتماعية أجمل القصائد، فكان أميرا أينما حل، لغته الغنية وأسلوبه البسيط الممتنع، جعلا اسمه معروفا بين الأقطاب العربية، كأنه ابن بيروت ودمشق وعمان وصنعاء وتونس، كأن ابن بغداد الأبية ولد في كل شارع عربي وتربي في كل بيت عربي وعلى يد كل أسرة من مشرق العالم العربي إلى مغربه.. كريم العراقي أروع من حول بغداد إلى قصيدة ترددها الألسن وتتناقلها الأجيال، رمى بحمله بعد صراع طويل مع السرطان عن عمر يناهز 68 عاما، نظم قصيدته الأخيرة ورحل عن عالمنا بعد أن أغنى المكتبة العربية والمكتبة الموسيقية بأجمل القصائد وأكثرها صدقا في التعبير وجمالية في الوصف.
كريم عودة أحب العراق حتى ارتبط اسمه بها، وبات يعرف بكريم العراقي من بلد الرافدين، قال كلمة حق، أغمض عينيه ومشى تاركا مجموعة من القصائد التي لا تشبه إلا كريم العراقي، فيها منه الكثير، وإن كانت كل قصيدة تتحدث عن ذاتها ولها خصوصيتها.
ابن بغداد والبداية
ولد كريم العراقي في منطقة الشاكرية كرادة مريم في العاصمة العراقية بغداد في 1955، وحصل على دبلوم علم النفس وموسيقى الأطفال من معهد المعلمين في بغداد. وعمل العراقي معلما في مدارس بغداد لعدة أعوام، ثم عمل مشرفا متخصصا في كتابة الأوبريت المدرسي. وتنوعت اهتماماته وشملت كتابة الشعر الشعبي والأغنية والأوبريت والمسرحية والمقالة، إضافة إلى اهتمامه بالثقافة والأدب منذ أن كان طالبا في المرحلة الابتدائية، حيث كتب في مجلات عراقية عديدة.
منذ أن كان طفلا، لاحظ جميع من حوله موهبته، ثم في منتصف التسعينيات بدأ كتابة الأغاني، حيث قدم أغنيتين للأطفال "الشامسة" و"يا خالة يالخياط"، وهو طالب في المرحلة المتوسطة، ثم قدم عديدا من الأعمال الناجحة وهي "تهانينا يا أيام" لصلاح عبد الغفور، و"دار الزمان ودارة" لسيتا هاكوبيان، وأغنية "جنة جنة" للفنان رضا الخياط وألحان عباد عبد الكريم، و"عمي يبو مركب" لفؤاد سالم، و"وي هلة" لأنوار عبد الوهاب، و"عرفت روحي أنا" لرياض أحمد، و"هلة بيك" أغنية رياضية.
نقلة نوعية
شكلت بداية الثمانينيات نقلة نوعية في حياة الشاعر كريم العراقي، الذي بدأ فيها التعاون مع نجم العراق في ذلك الحين الفنان سعدون جابر، وقدم له أربع أغنيات من ألحان العبقري بليغ حمدي عام 1981، وكان أشهرها أغنية "أمي يا أم الوفا" التي امتد تأثيرها أعواما طويلة.
ثم أعطى حسين نعمة ثلاث أغان، وأغنية لصلاح عبد الغفور، وأغنية الشمس شمسي والعراق عراقي التي لحنها وأداها جعفر الخفاف.
ثم واصل مسيرته الفنية وتعامل مع عمالقة الغناء في الوطن العربي، صابر الرباعي، ديانا حداد، سميرة سعيد، محمد منير، ماجد المهندس، أصالة، وغيرهم. وأسهم بشكل كبير في إبراز عديد من الفنانين والمطربين بسبب قصائده التي تحولت إلى أغان، كان كريم العراقي يمثل هوية ولسان حال العراق في جميع معاناته، سواء في فترة الحصار الدولي أو ما بعدها، كل حرف كان يكتبه يعبر عن حالة معينة.
بين العراقي والساهر
قد تكون النقلة الحقيقية التي جعلت من كريم العراقي نجما في العالم العربي ارتباط اسمه بالفنان كاظم الساهر، حيث قدم له أكثر من 70 قصيدة، وأسهم كل واحد منهما في تحقيق انتشار الآخر وشهرته بشكل كبير. كان العراقي، رفيق درب الساهر وكتب معظم أغانيه، وكانت علاقتهما قد بدأت منذ 1987 في الجيش وكانت أول أغنية لهما "شجاها الناس" والتي كانت مقدمة المسلسل العراقي "نادية". ثم التقيا في مصر وكانت لهما سلسلة من الأعمال الناجحة التي يتردد صداها حتى يومنا هذا. من منا ينسى "بغداد" التي رسمها العراقي بأجمل الصور وغناها الساهر بأروع لحن. وأسهم هذا الأخير في وصول قصائده إلى عشرات الملايين، وكان لهما دور بارز في نشر الأغنية العراقية.
وبهذه الكلمات نعاه الساهر، على منصة "إكس"، كاتبا: "رحل الصديق والرفيق الأستاذ كريم العراقي. رحم الله الفقيد وألهمنا وذويه جميل الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون".
سفير اللهجة العراقية
استطاع كريم العراقي نشر اللهجة العراقية على نطاق كبير في البلاد العربية، ويصح القول إنه كان سفيرا للهجة العراقية، بعد أن كانت محدودة التأثير. كانت له بصمات في العراق، وسبب عدم عودته إلى بلاده كانت بسبب خشيته من تعرضه لمضايقات وتهديدات من جهات عديدة تعرض لها عديد من أقرانه بعيد الاحتلال، فضلا عن الإهمال الحكومي للفنانين والأدباء.
قدم مجموعة من الدواوين الشعرية أبرزها "ديوان المطر" و"الضفيرة" و"كان يا ما كان" و"سالم والعراق" و"الخنجر الذهبي". كما حصل على عديد من الجوائز مثل جائزة الأمير عبدالله الفيصل العالمية لـ2019، وجائزة اليونيسيف لأفضل أغنية إنسانية عن قصيدة الذكر التي لحنها وغناها كاظم الساهر.
النهر الثالث
البساطة ووضوح اللغة وصدق التعبير والإحساس صفات جعلت من قصائد العراقي قريبة من القلب، إضافة إلى لغته السهلة الممتنعة، تشعر أنك يمكنك كتابة ما يكتبه كريم العراقي لكن قلمك يخونك، لهذا الشاعر أسلوب مختلف في كتابة القصيدة، كأنه يلج في أعماقك دون أن تشعر ويكتب لك وعنك بلغة عميقة المعاني وسهلة الفهم. هذا فضلا عن أنه كان بارعا في إلقاء الشعر، فقد عرف كيف يقود صوته في خدمة قصيدته، ما حقق له شهرة واسعة وانتشارا كبيرا. واستحق لقب "النهر الثالث" في بلد دجلة والفرات، كان شاعرا للوطن والحب، على مستوى عال من الإحساس والمشاعر التي يفتقر إليها كثير من الشعراء.
قصيدة الوداع
ألقى الشاعر كريم العراقي قصيدة بصوته على سرير المستشفى قبل ساعات من رحيله في فيديو نقله رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت له آخر قصيدة سبق بها طيف الموت ويقول بصوته:
«ضاقت علي كأنها تابوت
لكأنما يأبى الرجاء يموت
والصبر يعرف من أنا منذ الصبا
وشم له في أضلعي منحوت
فنشأت تحت الضيم غير مرفه
ما راعني الحرمان والطاغوت
وأنا الذي دفن اللئام منابعي
وطوى يدي بسحره هاروت
أرأيت حيا ميتا متماسكا
متفائلا وله الآمال قوت
هذا أنا.. سرقت شبابي غربتي
وتنكرني أعين وبيوت».
الجدير بالذكر أن كريم العراقي أصيب بمرض السرطان منذ أكثر من عام، وخضع إلى أكثر من عملية جراحية، كما أنه كان يتلقى بين الحين والآخر جرعات من العلاج الكيميائي، وكان على تواصل دائم مع جمهوره يخبرهم تطور حالته الصحية، وكان قد فقد النظر في إحدى عينيه وتساقط شعره، لكنه بقي وفيا للكلمة وفارسا من فرسان الزمن الجميل.