منصور الخريجي مودعا: ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك

منصور الخريجي مودعا: ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك
منصور الخريجي مودعا: ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك
الراحل منصور الخريجي.
منصور الخريجي مودعا: ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك
مرافقا للملك فيصل في إحدى زياراته الخارجية.
منصور الخريجي مودعا: ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك
منصور الخريجي مودعا: ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك

ليس سهلا أن تكون مترجما للملوك، ولا يكفي أن يتحدث الإنسان لغة أجنبية ليكون مترجما جيدا، فمهمة الترجمة تقوم على الموهبة، وتنصقل مع طول المران والممارسة، لكن الموقف وهيبة الحاضرين وشخصياتهم تقمع أحيانا قدرة المترجم على السيطرة على النفس والاحتفاظ بهدوء الأعصاب.
بهذه الخلاصة، انتهى الراحل منصور الخريجي، مترجم الملوك الذي غادر الدنيا عن عمر يناهز 88 عاما، مخلفا حزنا واسعا برحيله.
ترك الراحل إرثا معرفيا في عدد من المؤلفات، منها ترجمته كتاب «عبر الجزيرة على ظهر جمل» للرحالة الدنماركي باركلي رونكيير، الذي زار الجزيرة العربية في 1912، وروايتا «دروس إضافية» و«ساعة الصفر»، وكتاب «كلام جرايد»، وأهم مؤلفاته وأغناها كتاب «ما لم تقله الوظيفة.. صفحات من حياتي»، وهي مذكرات تنطلق من بداياته والفقر المدقع الذي عاشه، آلامه ومشواره المهني، وصولا إلى عمله مترجما للملوك: فيصل وخالد وفهد وعبدالله -رحمهم الله جميعا-، ألحقها بجزء ثان بعنوان «من زوايا الذاكرة».
عصامية أعجبت الملك سلمان
في قراءة لـ «الاقتصادية» لمذكراته الصادرة بطبعاتها المتعددة، يسجل ناشر الكتاب أن الملك سلمان بن عبدالعزيز، هاتف الخريجي، معلقا، "جلست طوال الليل أقرأ كتابك هذا يا منصور، ولم أنم للحظة واحدة، وذهبت للمكتب دون نوم، لأني جلست عليه من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة السابعة صباحا، وذهبت للمكتب دون أن أنام"، مبديا إعجابه بما فيه من تجربة وعصامية.
مترجم الملوك، الراحل منصور الخريجي، في مذكراته، يسير بقارئه إلى لحظات البدايات، ونشأته في ظروف قاسية، متتبعا خطاه، فهو من الجيل الذي عرف الفقر وشظف العيش والبيوت القديمة التي كانت تضاء بالفوانيس والسرج، والجيل الذي سار في شوارع ترابية ضيقة غير مضاءة، واقتصر قوته على طعام قلما زاد على خبز يطرى ببعض الإدام المتواضع، الجيل الذي كان يسعد الفرد منه لو وجد عنده ثوبين، أو لو أن الثوب الوحيد الذي لديه لم يكن أحيانا ممزقا مرقعا.
يوثق الخريجي، حياته يتيما في مجتمع قروي فقير، كان التعليم فيه ترفا، وأغلبية أبناء قريته لم يدرسوا إلى ما هو أعلى من مستوى الابتدائية، حيث كان الأبناء حينها يرسلون إلى العمل في الحقول وهم لا يزالون صغار السن، وكان ترتيبه الرابع بين ولدين وأربع بنات، شهد مواقف عصيبة، منها وفاة أخته فاطمة، وهي طفلة، بين منزل يضم عائلة لم تلتئم جراحها من اليتم.
لم يكن الخريجي، يعرف شيئا عن المملكة قبل عودته إليها، كان يعرف فقط أن والده أتى من القصيم، وأول ما يستذكره من حياته ما عاشه في بلدة "القريتين" في سورية، ثم انتقاله عبر رحلة شاقة ومرهقة عبر صحراء المملكة إلى حي المحمودية في المدينة المنورة (أحد الأحياء القديمة الذي أزيل لاحقا) في الأربعينيات الميلادية.
شهادتان وعلم غزير
حصل منصور الخريجي على الشهادة الابتدائية مرتين، مرة من سورية ومرة من المدرسة الناصرية في المملكة، ودرس إلى أن حصل على شهادة تسمى "الثقافة" عام 1952، وهي شهادة تكون قبل إتمام الثانوية بعام واحد، وكانت آخر شهادة يمكن للطالب الحصول عليها في المدينة المنورة قبل إتمام الثانوية، لينتقل بعدها إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، التي تشرف على مكة المكرمة والمسعى، ويعيش الطلاب الوافدون من مختلف مناطق المملكة في دار خصصتها الدولة لهذا الغرض.
وفي 1954 التحق بالدراسة في مصر، ودرس في جامعة القاهرة اللغة الإنجليزية، ثم عمل في وزارة المعارف بعد التخرج مفتشا للغة الإنجليزية في المدارس المتوسطة والثانوية، لقلة الخريجين آنذاك، ثم انتقل بعدها إلى جامعة الملك سعود معيدا في قسم اللغة الإنجليزية، وفي نهاية العام كان قد حصل على قبول من جامعة ليدز في المملكة المتحدة لإكمال الدراسات العليا (دبلوم دراسة لما بعد الجامعة) عام 1960.
وبعد ثلاثة أعوام، سافر إلى الولايات المتحدة لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، فحصد الأولى من جامعة نبراسكا، لكن لم يكمل الثانية من جامعة نيو مكسيكو، وعاد إلى جامعة الملك سعود دون الحصول على الدكتوراه، رغم أنه قطع أكثر من منتصف الطريق، بعد أن أخفق في اجتياز الاختبار الشامل، رغم ما يكتنزه من معرفة وعلم غزير.

المرة الأولى مع الفيصل
كيف عمل منصور الخريجي مترجما للملوك؟
المصادفة وحدها هي من قادته إلى هذا المكان، فالراحل كتب في سيرته المكتوبة عبر 368 صفحة أن المترجم الخاص للملك فيصل، الراحل عبدالعزيز الماجد، قد مرض، فرشحه وزير المعارف آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ، لتولي مهمة الترجمة في الديوان الملكي -بشكل مؤقت- إلى أن يشفى الماجد.
يذكر الراحل منصور بن محمد الخريجي المرة الأولى التي ترجم فيها للملك فيصل -رحمه الله-، كان الكل يشجعه ويشد من أزره، في مسألة لا تحتاج إلا إلى شيء من الإقدام وتمالك النفس والثقة بها أمام الملك، وكانت المناسبة تقديم أوراق اعتماد سفير جديد، ترجم كلمة السفير، ثم ترجم جواب الملك عليه، وكان يقوم بذلك وهو شبه غائب عن الوعي، على حد تعبيره، في موقف رهيب، فلم يسبق أن وقف إلى جانب ملك في غرفة واحدة، وأي ملك، إنه الملك فيصل نفسه، ومن حوله كبار رجال ديوانه.
ويسجل الخريجي، أن الدقائق الأولى كانت عسيرة، لأنها الأولى في حياته كمترجم، وما بقي بعدها كان سهلا، إذ استطاع أن يسيطر على انفعاله، وانتهت المقابلة ليخرج ليتلقى تهاني الحاضرين، وكانت بشرى بأنه لا داعي للسفر إلى الخارج لنيل درجة الدكتوراه، ولا سيما أن الديوان كان يريده مترجما للملك، وهو ما كان.
مع الملوكعن صفات الملك فيصل، يروي الخريجي في كتابه الممتع "ما لم تقله الوظيفة.. صفحات من حياتي" أنه لم يكن في أي وقت من حياته من الذين يتكلمون كثيرا، إلا أنه في أواخر حياته أصبح قليل الكلام جدا، وعندما يسافر في رحلاته الخارجية يتخذ مقعده في أول كرسي في طائرته، ويجلس هكذا لساعات طويلة دون أن يتفوه بكلمة واحدة.
ويروى عنه أنه كان يجلس على المائدة مع موظفيه يأكل قليلا، ثم يسرد بعض الحكايات والوقائع التي مرت به أو سمع عنها، كان يقصها بصوت هادئ وقور تميز به، وتحمل بعضها مرحا لدرجة أن الجالسين على المائدة ينفجرون ضحكا بأصوات عالية لم يكن يستطيعون كتمها.
أما الملك خالد، فقد كانت طيبته لا حد لها، وكان يعد نفسه أبا، ليس فقط لمن يعملون معه، بل للجميع.
والملك فهد فيصفه "الإنسان الذي لا تفارق الابتسامة والسماحة وجهه، ليس فقط نحو ضيوفه الكبار، بل مع كل الذين يعملون معه وتحت مظلته، صاحب القلب الرحيم الذي لا يعرف عن ضائقة ألمت بأحد أو مكروه أصاب قوما، سواء في مملكته أو خارجها، إلا سارع إلى التفريج عن المبتلين".
ويعرف أن الملك فهد ما احتد على إنسان، أو وبخ موظفا ممن يعملون في كنفه على تقصير أو غلط ما، إلا وسارع في أقرب فرصة إلى إبداء رضاه عنه بكلمات رقيقة أو مداعبة خفيفة تثلج صدره وتسري عنه.
وكان آخر عهد الخريجي في 2005، منهيا مسيرته المهنية بالتقاعد، بعد أن كان نائبا لرئيس المراسم الملكية.
«تكشيرة» المترجم
يبدو دائما "مكشرا"، هكذا يوصف الخريجي، إلا أنه يعترف في مذكراته بأن "التكشيرة" هي نتاج المتطلبات الثلاثة التي لا غنى للعامل في المراسم الملكية عن استيفائها: التحفظ، التيقظ، والتأهب، وليس هذه المتطلبات مجرد حيلة، بل هي جزء لا يتجزأ من حياة مسؤول المراسم، لا تنفصل عنه، ولا ينفصل عنها، لا في نهار ولا في ليل.
العمل مع الملوك والحكام شرف كبير لا يناله إلا السعداء، كما يراه الخريجي، الذي رحل تاركا خلفه عمقا في التجربة، ونصائح لكل مترجم موهوب، يختمها مطمئنا: ما أكثر الغلطات والهفوات التي يرتكبها المترجمون، لكن الملوك يقابلونها بالصفح والتسامح.

سمات

الأكثر قراءة