الجامعات ومراكز التفكير والتوجهات المستقبلية
وردت مسألة مراكز التفكير على هذه الصفحة أكثر من مرة. لعل أولها كانت في 12 فبراير 2015 في مقال يحمل عنوانا يقول "مراكز التفكير مسؤولية اجتماعية"، وآخرها كان في الثالث من أغسطس 2023 في مقال آخر يطرح موضوع "كيف تستطيع الجامعات تفعيل تميزها المعرفي". وقد وردت مراكز التفكير في ذلك المقال كوسيلة لتفعيل إدارة المعرفة في الجامعات، وتعزيز إسهامها في تنمية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وقد وردني طلب من قارئ كريم بالحاجة إلى طرح مزيد بشأن مراكز التفكير، ودورها في استشراف مسارات المستقبل. ولا شك أن أهمية هذه المراكز في ازدياد مطرد، يتوافق مع تسارع التقدم العلمي والتقني، وما يرافق هذا التسارع من طموحات وتحديات، وتعاون ومنافسات، تؤثر في المجتمعات. فهذه المراكز هي من يبحث في المعطيات، ويقيم المستجدات، ويرسم الخطط، ويحدد متطلبات الجاهزية للمستقبل.
هناك أكثر من تعريف لمراكز التفكير، وتوصف أحيانا بمصانع التفكير، وتشمل مصادر هذه التعاريف قواميس لغوية، وأوراقا بحثية، ومراجع لمنظمات مختلفة تهتم بشؤونها. وتتفق جميع هذه التعريفات على ثلاث صفات رئيسة لهذه المراكز. تركز الصفة الأولى على "الموضوعات" التي تلقى اهتمام هذه المراكز، وعلى "توجهات التفكير" بشأنها. وتشمل الموضوعات المستهدفة قضايا عامة غايتها خدمة الإنسان والارتقاء بالمجتمعات. ولهذه الموضوعات جوانب اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية، فضلا عن الشؤون التقنية التي يفرزها التقدم العلمي المتسارع، ويقودها للتأثير والتفاعل مع هذه الجوانب. وتتضمن توجهات التفكير بشأن هذه الموضوعات، البحث في واقعها والمتغيرات من حولها، ووضع استراتيجيات وخطط، ومناهج ومبادرات، تستند إلى سيناريوهات واحتمالات محتملة، إلى جانب تقديم حلول ومشاريع ترتبط بها، وينصح بالعمل على تنفيذها، استجابة لمسيرة التنمية المنشودة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مراكز التفكير قد تكون شاملة لجميع الموضوعات سابقة الذكر، أو ربما تكون مختصة في موضوعات محددة، دون غيرها.
تهتم الصفة الثانية لمراكز التفكير بطبيعة عمل هذه المراكز، فهي تتميز بأنها تقدم ذكاء جمعيا، أي إن ما تقدمه من معطيات معرفية جديدة أو متجددة لا تنطلق من تفكير خبير واحد، وإنما تخضع لتلاقح فكري بين مجموعات من الخبراء، يتضمن مراجعات ونقاشات، تؤدي إلى حصيلة فكرية ومعرفية أكثر موثوقية. على أساس هذه الصفة، تضم مراكز التفكير، مجموعات من الخبراء في شتى الموضوعات التي تلقى اهتمام مركز التفكير المطروح. ولا يكون جميع خبراء مجموعات أي مركز فكري، متفرغين تفرغا كاملا بالضرورة لعمل المركز، بل قد يعمل بعضهم مستشارين غير متفرغين، يسهمون في العمل عند الحاجة.
نأتي إلى الصفة الثالثة التي تتعلق بمواقع مراكز التفكير، وتبعيتها الإدارية، ومصادرها المالية. فهناك مراكز تفكير تتبع الجامعات، أو تتبع مؤسسات بعينها، أو ربما تكون مستقلة بذاتها ولا تتبع أحدا. ولأن هذه المراكز تهتم بالقضايا العامة، فعادة ما تتلقى مساعدات من جهات متعددة حكومية، وغير حكومية، إضافة إلى أوقاف تخصص لها، من أجل تفعيل نشاطاتها. ولا يأتي الدعم المالي بلا مقابل، في كل الحالات، فكثير من المؤسسات الداعمة تتلقى مقابل ذلك مشورة مراكز التفكير الناتجة عند دراساتها وأبحاثها في الموضوعات المختلفة. وإذا كانت مراكز التفكير تتبع بعض الجهات، وتتلقى دعما ماليا منها أو من غيرها، إلا أن ولاءها المعرفي، وما تقدمه من معطيات، يفترض أن يبقى للموضوعية والمنهج العلمي البحثي، والتزاماته الأخلاقية، فهي بغير ذلك تفقد دورها في خدمة الإنسان، والارتقاء بالمجتمعات.
هناك أمثلة عديدة لمراكز التفكير حول العالم، لعل بين أبرزها "معهد هوفر" التابع لجامعة "ستانفورد" الشهيرة. ويعرف هذا المعهد توجهاته المعرفية على أنها "تتطلع إلى تحسين حياة الإنسان عبر تقديم أفكار ترتقي بالفرص الاقتصادية، وتسعى إلى بناء الرفاهية، في إطار تحقيق الأمن والسلام، ليس لأمريكا فقط بل للعالم بأسره أيضا. ومن الأمثلة المهمة أيضا "مركز التفكير حول التعليم العالمي"، التابع لجامعة "هارفرد". هناك أمثلة مهمة كثيرة أخرى، على المستوى العالمي، لا مجال لطرح مزيد منها في هذا المقال.
على المستوى العربي، هناك أيضا عدد من مراكز التفكير، بينها على سبيل المثال "معهد للسياسات العامة والشؤون الدولية" يتبع الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد أسس في 2006. ويقول المعهد في رسالته إنه "معهد مستقل يقوم بإجراء بحوث تقدم سياسات تختص بالمنطقة العربية". وبين هذه المراكز أيضا "المعهد العربي للبحوث والسياسات: نواة". ويعرف المعهد نفسه على أنه "شبكة عربية بحثية علمية وفكرية مستقلة تعنى بإنتاج البحوث وتحليل وتطوير السياسات في المجالات التنموية، والاجتماعية، والسياسية، والفلسفية، والحقوقية، وبناء قدرات المؤسسات البحثية العربية". وقد أصدر هذا المعهد 2021 تقريرا حول "مراكز البحوث والفكر في المنطقة العربية"، ربما يحتاج إلى تحديث مستمر يواكب تطور هذه المراكز، وتنامي مخرجاتها، وآثارها على أرض الواقع.
وهكذا نرى أن مراكز التفكير تحاول رسم سياسات المستقبل وتحديد مساراته المنشودة، في مختلف المجالات، عبر البحث العلمي، والنظر بموضوعية إلى جميع مصادر التغيرات، قبل تحديد الاتجاهات السليمة، والتوصية بالانطلاق نحوها. ولا شك أن الجامعات بما لديها من كنوز معرفية، في طلابها ومنسوبيها، هي الأقدر على إنشاء هذه المراكز وتفعيلها، مع الانفتاح على المجتمع والاستفادة من الخبرات المعرفية المهنية، فالجامعات ليست جامعة للمعارف الأكاديمية في شتى المجالات فقط، بل يجب أن تكون جامعة للخبرات التطبيقية أيضا، من أجل توظيف المعرفة توظيفا حسنا يسهم في التنمية ويعزز استدامتها. فبهذه المراكز تستطيع الجامعات الاستفادة من إمكاناتها بشكل أفضل، وتطوير عطائها للمجتمع وإسهامها في الارتقاء بمنجزاته.
لا شك أن استخدام مراكز التفكير للبحث العلمي الموضوعي في تحديد توجهات المستقبل في مختلف الموضوعات، يعطي ثقة أكبر بهذه التوجهات. وبالطبع يقضي البحث العلمي في هذا الشأن متابعة مستمرة للمتغيرات، حيث تتمتع التوجهات باستجابة مرنة تستطيع استيعابها والاستفادة منها.