ماليزيا ومعضلة اختيار زعيم جديد
المعروف أن الانتخابات العامة الأخيرة في ماليزيا أسفرت عن تولي ائتلاف برلماني هش بقيادة السياسي المخضرم أنور إبراهيم، الحكم في هذا البلد المنقسم على نفسه سياسيا. والمعروف أيضا أن إبراهيم ما كان له أن يحصد ما حصده من مقاعد برلمانية، ويتجاوز الشخصيات والأحزاب الأخرى المترشحة لولا برنامجه الانتخابي القائم بصورة محورية على الحكم الرشيد، وضرب الفساد الذي عانته ماليزيا كثيرا في الأعوام الأخيرة، الذي كان أوضح تجلياته ما حدث في قضية اختلاس رئيس الحكومة الأسبق "نجيب رزاق" مليارات الدولارات من صندوق الدولة للتنمية التي انتهت بدخوله المعتقل، ليصبح أول زعيم ماليزي مدان.
الغريب أن إبراهيم، الذي حلم طويلا بقيادة ماليزيا من بعد أعوام من القهر والظلم والاعتقال بتهم كيدية إبان عهد صديقه رئيس الحكومة الأسبق مهاتير محمد، قبل مضطرا أن يتحالف مع شخصية سياسية تدور حولها شبهات الفساد وملاحق بتهم جنائية هو الزعيم الحالي لحزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو "أمنو" أحمد زاهد حميدي، بل اضطر أيضا أن يخضع للضغوط، ويعين الأخير نائبا له ويعهد إليه أيضا بمنصب وزير تنمية الأقاليم النائية.
بهذا فقد إبراهيم كثيرا من مصداقيته في نظر مؤيديه والرأي العام الماليزي، بل باتت مقولة "اليوم حميدي وغدا نجيب" شائعة في الأوساط الشعبية في إشارة مبطنة إلى أن الرجل الذي عول عليه الشعب لتنظيف البلاد من الفساد، تخلى عن أجندته الإصلاحية بتوزيره حميدي، وربما يتخلى عنها أكثر بالعفو عن نجيب رزاق قريبا، ولا سيما أن إبراهيم عضو نافذ في مجلس العفو الذي يتمتع فيه ملك ماليزيا بسلطة تقديرية ويتصرف بناء على نصيحة أعضاء المجلس.
جاء ذلك، بعيد قيام المدعين العامين في الرابع من سبتمبر الجاري، بإسقاط 47 تهمة فساد متعلقة بخيانة الأمانة والرشوة وغسل الأموال ضد حميدي، بشكل مثير للجدل، الأمر الذي أثار انتقادات بأن حكومة إبراهيم باتت تتخذ إجراءاتها ضد الفساد بصورة انتقائية ومحابية، وقد يتوقع منها قرارات أخرى مماثلة، إرضاء للقوى السياسية التقليدية المحافظة، وكثمن للمحافظة على تماسك الحكومة الحالية.
كرد فعل من قبل إبراهيم على الانتقادات التي انهالت على حكومته كرر مرارا ألا دخل له في تبرئة حليفه حميدي، وأن الموضوع من اختصاص النائب العام والسلطة القضائية فقط، لكن كثيرين مقتنعون بأن دور النائب العام والمدعي العام في ماليزيا غير منفصل ويخضع لمرئيات الحكومة الفيدرالية، خصوصا أن النائب العام الماليزي يشغل في الوقت نفسه منصب كبير المستشارين القانونيين للحكومة.
من جانب آخر، خرج معلقون محليون ليقولوا إن أهمية حميدي أقل بكثير من أهمية رزاق في أوساط حزب أمنو التاريخي الذي استقلت البلاد على يده، وبالتالي فإنه لو قامت الحكومة بجهد لإعادة محاكمة الأخير وتبرئة ساحته لكي يعود ويتزعم "أومنو" بدلا من حميدي، لصب ذلك في مصلحة تعزيز قوة حكومة إبراهيم داخل البرلمان، لأن رزاق شخصية سياسية قوية وماهرة، وما زالت تحظى بشعبية قوية عند مؤيدي "أومنو" الكثر، ولا سيما ضمن عرقية الملايو، بينما لا يشكل حميدي أي ثقل مواز، بدليل أن "أومنو" تحت قيادة الأخير حققت أسوأ أداء على الإطلاق في انتخابات نوفمبر 2022، من بعد أن كان دائما في الطليعة. هذا فضلا عن فشل الحزب فشلا ذريعا في انتخابات محلية جرت في أغسطس الماضي "حصلت أومنو على 19 مقعدا فقط من أصل 108 مقاعد تنافست فيها في ست ولايات".
المعروف أن حميدي، بدلا من أن يتبى قضية تبرئة وإطلاق سراح زعيمه السابق أي نجيب رزاق، فإنه يقاوم مثل هذا التوجه لأسباب منها أنه سيخسر حتما موقعه الحالي على رأس "أومنو" في حال تبرئة رزاق، وعودة الأخير إلى الساحة السياسية. وهذا وحده يكشف مدى التنافس الضاري المشتعل بين ساسة ماليزيا الذي تتخلله صور شتى من الدسائس والمؤامرات والمماحكات والضرب تحت الحزام.
نخالة القول، إن ضررا سياسيا بالغا قد وقع بعدم إدانة حميدي، بالتهم الموجهة له والاكتفاء بإسقاطها، وأن أكبر المتضررين هو زعيم البلاد الحالي أنور إبراهيم، الذي يواجه اليوم انشقاقات فردية داخل ائتلافه الحاكم قد تفقده أغلبية الثلثين في البرلمان. كما ينتظر أن يواجه في الأيام المقبلة مظاهرات شعبية بقيادة أحزاب المعارضة احتجاجا على ما تصفه هذه الأحزاب بـ"بداية التطبيع مع الفساد". والحقيقة التي لا بد من الإشارة إليها هي أن إبراهيم، ليس لديه خيار سوى الإبقاء على حميدي، ومقاومة إسقاطه وطرده من الحكومة، لأن عكس ذلك يعني لجوء "أومنو" إلى اختيار زعيم جديد مع احتمال أن يلجأ خليفته إلى سحب نوابه البرلمانيين الـ30 من الائتلاف الحكومي، والانضمام إلى المعارضة، الأمر الذي يعني سقوط الحكومة تلقائيا.