عيون ترصد الحاضر وتستشرف المستقبل
يحتفل العالم اليوم بعيون تتمثل في مؤسسات ينظر كل منها في مشهد الحاضر ساعية إلى استيعاب جوانب محددة من خصائصه، كما تمد رؤيتها إلى المستقبل متوجهة نحو استشراف آفاق هذه الجوانب. ويقوم بعض هذه المؤسسات بتوفير نتائج ذلك في وثائق دورية تتيحها للجميع، من أجل الإسهام في حياة تسودها ثقافة المعرفة، وخصائص الشراكة والتعاون، وربما الحث على الإبداع والابتكار، والمنافسة الحميدة. ولا شك أن مسألة استشراف آفاق المستقبل ترتبط ارتباطا عضويا باستيعاب الحاضر، لأن الحاضر يعد القاعدة التي تنطلق منها مسيرة المستقبل. لكن مسألة استشراف المستقبل هذه لا تكتفي باستيعاب الحاضر فقط في تحديد توجهات مسيرة المستقبل، بل إنها تهتم أيضا بالمتغيرات المؤثرة في شؤون المستقبل، وبتوقعات مستجداتها، وهذه أمور من الصعب النظر إليها بعين اليقين. وعلى هذا الأساس، لا بد في استشراف المستقبل من طرح سيناريوهات ممكنة الحدوث، تأخذ في الحسبان احتمالات مختلفة، ترتبط بعوامل يمكن أن تؤثر في مثل هذه المتغيرات والمستجدات.
في إطار ما سبق، سنطرح في هذا المقال بعضا مما ورد في وثيقتين مهمتين صادرتين حديثا عن مؤسستين عالميتين معروفتين ترصدان الحاضر وتنظران إلى المستقبل في جوانب التقنية والتنمية. تحمل الوثيقة الأولى عنوانا يقول "تقرير التقنية والابتكار لعام 2023"، وهي صادرة عن مؤسسة مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية، وهي مؤسسة دولية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة. أما الوثيقة الثانية، فتحمل عنوانا آخر يقول "تقرير مستقبل الوظائف لعام 2023"، وهي صادرة عن المنتدى الاقتصادي الدولي، وهو منظمة دولية أيضا، لكنها مستقلة، ولا تتبع منظمة الأمم المتحدة.
تم اختيار هاتين الوثيقتين، ليس فقط بسبب حداثتهما، بل لأن موضوع الأولى الخاص بالتقنية والابتكار، يحمل آفاقا مستقبلية مهمة للجميع، فمسيرة حياتنا في هذا العصر ترتبط بالتقنية وابتكار مزيد منها. ويضاف إلى ذلك حقيقة أن موضوع الوثيقة الثانية، المرتبط بشؤون الوظائف، يهم الجميع أيضا، ويحمل معطيات اقتصادية واجتماعية تؤثر في الجميع. وهناك في موضوعي الوثيقتين شيء من التكامل، لأن ارتباط شؤون العمل والوظائف، بشؤون التقنية والابتكار، ارتباط قوي، حيث يعزز كل منهما الآخر. فصاحب الوظيفة يسهم في توجيه التقنية والابتكار، كما أن التقنية والابتكار بدورهما يسهمان في توليد الوظائف وتوجيهها.
تنظر وثيقة التقنية والابتكار في "17 نوعا" من أنواع التقنية التي تعد الأكثر أهمية، في تأثيرها المستقبلي على العالم. وتشمل هذه النظرة ثلاثة محاور رئيسة، هي: محور تقنيات الثروة الصناعية الرابعة، ومحور التقنيات الخضراء الصديقة للبيئة، ثم محور التقنيات المهمة الأخرى. وسنستعرض هذه التقنيات في التالي:
إذا بدأنا بمحور تقنيات الثورة الصناعية الرابعة لوجدنا "الذكاء الاصطناعي" على رأس هذه التقنيات. وتشمل تقنيات هذا المحور الأخرى تقنيات "إنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، وسلسلة الكتل، والجيل الخامس من أنظمة الهاتف الجوال، وتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأجهزة الروبوت، إضافة إلى تقنية الطائرات المسيرة". ولعل من المفيد هنا ملاحظة أن هناك تفرعات وتطبيقات عديدة لبعض هذه التقنيات، فضلا عن الدمج القائم عمليا بين بعضها، مثل وجود التقنية الرقمية، والذكاء الاصطناعي في تقنيات الطائرات المسيرة، وغيرها من تقنيات.
للذكاء الاصطناعي بالطبع تفرعات وتطبيقات مختلفة ترصدها وثيقة حديثة صادرة حديثا عن جامعة ستانفورد الشهيرة، وتحمل عنوانا يقول "تقرير دليل الذكاء الاصطناعي 2023". ولعلنا نعود إلى هذا الموضوع في مقال مقبل بمشيئة الله. تجدر الإشارة هنا إلى أن النظرة المتداولة حاليا على نطاق واسع ترى أن تقنية الذكاء الاصطناعي مرشحة لقيادة الثورة الصناعية الخامسة المنتظرة.
ننتقل إلى محور التقنيات الخضراء الصديقة للبيئة، لنجد على رأسها الوسائل القادرة على تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية قابلة للاستخدام، إضافة إلى الوسائل التي تخزن الطاقة الشمسية بتركيز عال. وتتضمن تقنيات هذا المحور الأخرى أيضا تقنيات استخراج الطاقة، من وقود وغاز، من النباتات والمواد الحية، وتقنيات استخراج الطاقة من الرياح، إضافة إلى تقنيات استخراج الهيدروجين الأخضر من الماء واستخدامه كطاقة تحافظ على البيئة، وأخيرا تقنيات السيارات الكهربائية. ويلاحظ هنا أن في الطاقة النظيفة جوهر مضامين التقنيات الخضراء.
نصل إلى محور التقنيات الأخرى الذي يتضمن كلا من تقنيات النانو، والتقنيات الحيوية وعلوم الجينات. تشمل تقنيات النانو إجراء تغيرات في التكوين الجزيئي للمواد، وإيجاد مواد جديدة ذات خصائص مفيدة غير مسبوقة. وتتضمن تقنيات التغيير الجيني إجراءات ترتبط بتكوين خلايا الكائنات الحية، وتقديم حلول جينية لبعض المشكلات ذات العلاقة.
ننتقل إلى وثيقة وظائف المستقبل، لنأخذ منها توقعات المؤسسات التقنية بشأن الوظائف المرتبطة بالتقنية. وشملت هذه الوظائف مجالات التقنية الرقمية، مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، والمنصات الرقمية، والحوسبة السحابية، والأمن السيبراني، والتجارة الإلكترونية، وغيرها. وتضمنت هذه الوظائف أيضا مجالات تقنيات التعليم، وتقنيات توليد الطاقة وتخزينها، وتقنيات حماية البيئة، وتقنيات الرعاية الصحية والعلوم الحيوية، وتقنيات النانو والمواد الجديدة، وتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأجهزة الروبوت، وغير ذلك من وظائف في التقنيات الحديثة المتجددة.
يلاحظ بالطبع وجود توافق واضح في التقنيات الواعدة بين ما أوردته الوثيقة الأولى الخاصة بالتقنية والابتكار، وما أعطته الوثيقة الثانية بشأن وظائف المستقبل. ويعزز هذا التوافق الثقة في نظر الاثنتين إلى المستقبل. تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك مزيدا من المعلومات المهمة في شؤون المستقبل في كل من الوثيقتين، لعلنا نعود إليها في مقالات مقبلة بمشيئة الله.
نحتاج إلى العيون التي ترصد الحاضر وتستشرف المستقبل في مختلف المجالات حول العالم. ونحتاج إلى دراسة ما تراه هذه العيون من مشاهد، وإلى تحليل هذه المشاهد وتقييمها، واستخلاص ما يفيدنا منها في مسيرتنا نحو المستقبل، خصوصا أن العالم بات قرية صغيرة كل طرف فيها يمكن أن يؤثر في مختلف الأطراف الأخرى. ولا شك أننا نحتاج أيضا إلى عيون خاصة بنا، ترى ما لا يرى، كعيني زرقاء اليمامة.