مهارات ووظائف المستقبل ودور التعليم
لا شك أن الحاجة إلى العمل مسألة حيوية في حياة كل إنسان، حيث تلتقي فيها مختلف جوانب مشهد الحياة، بما يشمل العوامل الاقتصادية، والنواحي الاجتماعية، والأمور الإنسانية. وتعتمد متطلبات الوظائف التي تتم إتاحتها حاليا ومستقبلا، وبشكل مطرد، على التقدم العلمي والتقني المتسارع الذي يشهده هذا العصر. كما أن شغل هذه الوظائف يعتمد على التوافق بين المهارات التي يتمتع بها الطامحون للحصول عليها من جهة، وبين المتطلبات التي تحتاج إليها من جهة أخرى. أي أنه يعتمد بالتالي على استجابة التعليم لذلك، وتأمينه للتوافق المنشود. فالتعليم هو المسؤول الرئيس عن التعلم وجاهزية الإنسان لمتطلبات الحياة الحديثة، بما في ذلك توفير المهارات المطلوبة عبر شتى مراحله، وكذلك من خلال اختيار التوجهات التخصصية المناسبة.
غاية هذا المقال هي طرح موضوع مهارات ووظائف المستقبل إضافة إلى مناقشة استجابة التعليم لمتطلبات هذه الوظائف. يعتمد مثل هذا الطرح على معلومات وحقائق من جهة، وعلى أفكار وآراء من جهة أخرى. ولعلنا نبدأ بحقائق وآراء وردت في دراسة قام بها "المنتدى الاقتصادي الدولي" تم نشرها، هذا العام، في تقرير المنتدى حول "مستقبل الوظائف".
اعتمدت الدراسة على معلومات متوافرة لدى "منظمة العمل الدولية" حول 820 مليون وظيفة حول العالم. اختارت الدراسة حقائق متوافرة حول 673 مليونا من هذه الوظائف، أي نحو 82 في المائة منها، وبحثت في التغيرات المتوقعة فيها خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وجاءت النتائج لتقول إن 12 في المائة من هذه الوظائف معرض للزوال، في مقابل وظائف جديدة متوقعة تبلغ نحو 10 في المائة. أي أن أعداد الوظائف ستنخفض، بشكل مجمل، بنسبة تقدر بنحو 2 في المائة، أي ما يعادل نحو 14 مليون وظيفة. وهو رقم كبير يؤثر في حياة كثير من البشر، خصوصا مع النمو السكاني الذي يشهده العالم، والحاجة إلى مزيد من الوظائف.
ما يهمنا الآن هنا هو النظر في المهارات المطلوبة للوظائف الجديدة، والاستجابة لمتطلبات العصر في التوسع فيها. ويأتي ذلك متوافقا مع الطموحات التي نتطلع إليها، ونتوجه نحو تحقيقها من خلال التعليم وتنمية المهارات، وعبر توظيف هذه المهارات في مشاريع واستثمارات مفيدة على أرض الواقع.
تبين دراسة "المنتدى الاقتصادي الدولي"، المشار إليها أعلاه، أن هناك 26 مهارة يجب الاهتمام بها نظرا إلى حاجة الوظائف الحديثة، ووظائف المستقبل إليها. بعض هذه المهارات مألوف ومنفذ على أرض الواقع، يطلب تعزيزه، وبعضها الآخر يجب التنبه إلى أهميته، ومراعاة هذه الأهمية في تنفيذه في المستقبل. وتنقسم هذه المهارات إلى ثماني مجموعات رئيسة، أولاها مجموعة المهارات الإدراكية، وتتضمن: مهارات التفكير التحليلي، والتفكير النقدي، والتفكير المعتمد على منهجية النظم، ومهارة تعدد اللغات، إضافة إلى مهارات القراءة والكتابة والرياضيات. أما مجموعة المهارات الثانية فتهتم بالجوانب الإدارية للوظائف وتشمل: مهارات إدارة النبوغ، وإدارة المعطيات والعمليات، وإدارة الجودة. وتركز المجموعة الثالثة، بعد ذلك، على المهارات المادية، وتتضمن: البراعة اليدوية والقدرة على التحمل والدقة، إضافة إلى القدرات الحسية.
نأتي إلى المجموعة الرابعة التي تختص بالمهارات التقنية، وتشمل: الوعي التقني العام، وشؤون التصميم والخبرة في استخدام التقنية، والعالم السيبراني وأمنه، وبرمجة الحاسوب، وشؤون الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. وتهتم المجموعة الخامسة بمهارات العمل مع الآخرين، وتتضمن: مهارات القيادة والأثر الاجتماعي، والتعاطف والاستماع الفاعل، إضافة إلى مهارات التدريس والإشراف. وترتبط المجموعة السادسة بمهارات الكفاءة الذاتية، وتشمل: الوعي ودافع التميز الذاتي، ومهارات الصمود والمرونة ورشاقة الأداء، والفضول المعرفي والتوجه نحو التعلم مدى الحياة، إضافة إلى الموثوقية والاهتمام بالتفاصيل.
تهتم المجموعة السابعة بمهارات المشاركة التي تتضمن: مهارات تقديم الخدمات المختلفة، والإعلام والتسويق. ونصل إلى المجموعة الثامنة والأخيرة التي تركز على مهارات الأخلاق في التعامل مع البيئة والعمل على حمايتها، وعلى الحس العام بالمواطنة العالمية، بالطبع مع المحافظة على الانتماء الوطني وثقافة النشأة.
لم تكن دراسة "المنتدى الاقتصادي الدولي" حول المهارات المستقبلية المطلوبة الأولى من نوعها، لكنها حاليا الأحدث، والأكثر شمولية، وربما الأكثر انتشارا أيضا. وقد كانت هناك دراستان مهمتان سابقتان حول هذه المهارات، ودور التعليم في تأهيل الأجيال الجديدة بها وتفعيل أثرها. كانت الأولى بعنوان "بوصلة التعلم 2030"، وصدرت 2015 عن "مشروع مستقبل التعليم والمهارات" المدعوم من قبل "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية". وطرحنا هذه الدراسة ومعطياتها على هذه الصفحة بتاريخ 12 مارس 2020.
أما الدراسة الثانية فصدرت 2021 عن "برنامج تنمية القدرات البشرية"، وهو أحد برامج رؤية المملكة 2030. وحملت الدراسة شعارا يقول "إعداد مواطن منافس عالميا". وطرحت في سبيل تحقيق ذلك قيما وسلوكيات، ومهارات أساسية، ومهارات مستقبلية، ودعت إلى الاهتمام بها وتأهيل الأجيال الناشئة لاكتسابها عبر تطوير أساس تعليمي مناسب، والإعداد لسوق العمل المستقبلي، إضافة إلى إتاحة فرص التعلم مدى الحياة. وتحدثنا عن هذا الموضوع على هذه الصفحة في 14 أبريل 2022.
لعل هناك، في الختام، أمرين مهمين يستحقان التعليق. يرتبط الأمر الأول، ليس فقط بتأهيل الأجيال الجديدة بالمهارات المطلوبة، بل بتأهيل الأجيال العاملة حاليا، بهذه المهارات أيضا، خصوصا أنهم في موقع قيادة الأجيال الجديدة. ولا يشمل مثل هذا التأهيل المهارات المطلوبة فقط، بل مستجدات الموضوعات المتطورة باطراد أيضا. يذكر في هذا المجال أن كثيرا من الجامعات، بما في ذلك الجامعات العالمية المتميزة، تقوم بذلك في إطار دورات خاصة، حيث تؤدي بذلك ما يعرف بالمهمة الثالثة للجامعات التي تحدثنا عنها في أكثر من مقال سابق.
يكمل الأمر المهم الثاني سابقه، ويركز على مسألة "الجاهزية للمستقبل"، والحاجة إلى تفعيل البرامج والنشاطات اللازمة للإعداد لهذه الجاهزية، بدءا بوجود مراكز تفكير تسهم في تحديد ملامحها ودراسة موثوقيتها، ووحدات للتعلم مدى الحياة واستيعاب المستجدات والمهارات المطلوبة، فضلا عن تأهيل الناشئة ليكونوا قادرين على المنافسة عالميا، ويضاف إلى ذلك إيجاد الصناعات التي تستفيد من إمكاناتهم في وظائف تعمل على تحقيق الطموحات المنشودة.