الديموغرافيا وازدواج المعايير في فلسطين
يعيش الفلسطينيون معاناة الشتات والتشرد وسلب الحقوق الإنسانية الضرورية التي تضمن لهم الحياة الكريمة، كثير منهم يقطنون في مخيمات داخل فلسطين وخارجها في لبنان والأردن وسورية، وآخرون يعانون الغربة في مختلف دول العالم. ويعيش سكان غزة -على وجه الخصوص- داخل سجن كبير، يحاصره المحتل، فلا يمتلكون حرية السفر والتحرك للكسب في البر والبحر إلا بإذن المحتل، فهم ما بين البحر المحاصر في الغرب، والسياج الأمني الإسرائيلي من الشرق. لذلك يعانون الفقر والبطالة وعدم توافر الخدمات الضرورية، مثل المياه والكهرباء والرعاية الصحية، وما ينتج عنها من ظروف إنسانية مأساوية، خاصة مع اكتظاظ السكان. ومن أمثلة المأساة أن 4 في المائة فقط من سكان غزة يحصلون على مياه آمنة وخالية من التلوث! وينخفض متوسط الدخل في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى 7370 دولارا مقابل 44 ألف دولار في إسرائيل!
على الرغم من صمود أهالي غزة ومواجهتهم التحديات الصعبة والظروف الإنسانية المأساوية، إلا أن الإنسان لا يمكن أن يصبر على هذه الأوضاع المعيشية المتردية إلى الأبد، خاصة مع تناقص اهتمام القوى العالمية العظمى بفعل قوة الآلة الإعلامية للمحتل، وقوة تأثيرها على مواقع صنع القرار في الدول المتقدمة. يبلغ عدد سكان إسرائيل نحو 9.5 مليون نسمة، منهم سبعة ملايين يهودي ونحو مليوني عربي، في حين يصل عدد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة إلى نحو 5.4 مليون نسمة، منهم 3.2 مليون في الضفة الغربية بما فيها القدس، ونحو 2.2 مليون نسمة في قطاع غزة. وتعد الكثافة السكانية في قطاع غزة من أعلى الكثافات في العالم، إذ تصل إلى 5400 نسمة في الكيلومتر المربع، ونحو 500 نسمة / كم2 في الضفة الغربية، مقارنة بنحو 400 نسمة / كم2 في إسرائيل.
تجدر الإشارة إلى أن عدد سكان فلسطين التاريخية يقدر بنحو 700 ألف نسمة في 1914، ولا يشكل اليهود آنذاك سوى 8 في المائة فقط، وازداد عدد سكان فلسطين التاريخية إلى نحو مليوني نسمة عام 1948، منهم 31.5 في المائة يهود، إذ ارتفعت هذه النسبة نتيجة تزايد الهجرة في فترة الانتداب البريطاني. من المؤكد أن الصراع الديموغرافي يؤخذ بجدية من قبل المسؤولين في الدولة العبرية منذ تأسيسها، لأنهم يرون في ذلك قنبلة سكانية، فقد كان التحدي الديموغرافي أحد الاعتبارات، التي أقنعت رئيس الوزراء إسحاق رابين، بتوقيع اتفاقية أوسلو، وهو الاعتبار ذاته الذي أثر في قرار شارون بالانسحاب من غزة في 2005.
وقد عملوا على تخفيف حدة الأزمة الديموغرافية التي تواجه إسرائيل خلال العقدين الماضيين، على وجه الخصوص، ونجحت المساعي إلى حد ما، فمن المفاجئ أن معدل الخصوبة الكلي للعرب داخل إسرائيل يتجه نحو الانخفاض التدريجي منذ منتصف العقد الأول من هذا القرن، ويقابل ذلك ارتفاع تدريجي في معدل الخصوبة الكلي لليهود، سواء داخل القدس أو في إسرائيل عموما، ويعزى ارتفاع معدل الخصوبة الكلي لليهود بدرجة ما إلى مجموعة الحريديم اليهودية الأرثوذكسية، التي يصل عددها 1.3 مليون نسمة، وهي أسرع المجموعات السكانية نموا بسبب ارتفاع معدل الخصوبة الذي يصل إلى سبعة مواليد للمرأة، وهذا المعدل يفوق معدلات الخصوبة في أي دولة من دول الشرق الأوسط، بل في أي دولة من دول العالم. لذلك من المتوقع أن تمثل هذه المجموعة ربع سكان إسرائيل بحلول 2040. وإلى جانب ذلك، تعد الهجرة من آليات تخفيف حدة الصراع الديموغرافي من خلال القوانين الإسرائيلية التي تشجع هجرة اليهود من جميع أنحاء العالم، مقابل رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ومنازلهم! وعلى الرغم من ذلك، لا يزال التحدي الديموغرافي مفزعا لإسرائيل، إذ لا يزال معدل الخصوبة الكلي في إسرائيل "ثلاثة" مواليد للمرأة مقابل نحو "3.7" في الضفة الغربية وقطاع غزة.
من الملاحظ أن الحرب الشرسة على غزة تبرز التناقض وازدواج المعايير بدرجة مخجلة يندى لها جبين الإنسانية، ففي حين تساند الدول الغربية أوكرانيا في محاربة الاحتلال، فإنها بقضها وقضيضها تساند وتدعم استمرار الاحتلال في فلسطين، دون اعتبار لمعاناة الفلسطينيين، وخاصة الأطفال والنساء، أو مراعاة للقرارات الدولية التي تدعم حل الدولتين، بل هذه الدول تدعم جهود إسرائيل لإجلاء وتهجير سكان غزة إلى مصر، وإذا حدث ذلك، فإنه نجاح هائل لإسرائيل، لأن معظم الغزاويين لن يسمح لهم بالعودة لاتهامهم بالتورط في الإرهاب، فهل تسمح الدول العربية بتنفيذ قرار الإجلاء؟!
أخيرا، من دواعي التفاؤل، أن كثيرا من دول العالم ينادي بإنهاء الصراع الطويل، وتحقيق السلام من خلال الحوار الدبلوماسي الذي يفضي إلى حل الدولتين، ويمنح حقوق العيش الكريم وتحسين جودة الحياة لجميع الأطراف. وتعد المملكة من أوائل الدول التي تقف بحزم وثبات منذ عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- إلى جانب حصول الفلسطينيين على حقوقهم، بما يحقق لهم الحياة الكريمة.