سردية الإبادة الجماعية
تحدثنا عن السردية Narrative وشرحنا كيف أن السردية التي ترافق الأحداث في عالم اليوم تسهل لنا تفسير هذه الأحداث بدرجة مقبولة من الموضوعية والنزاهة والتوازن. أنا لا أقول إن السردية في حد ذاتها أو تفسيرها يوصلنا إلى الموضوعية والنزاهة. أنا أقول إن تفكيك السردية، أي: السرد اللغوي الذي بوساطته نعبر عن الحدث أو الأشخاص، يمنحنا الأدوات التي قد تسهل لنا عملية فهم العالم الذي حولنا.
هناك سرديات، أي: توصيفات لغوية، لا حصر لها في عالم اليوم. وكل يغني على سردياته، فكيف لنا الفرز بين ما هو نزيه منها وما هو جائر وظالم؟
الأدوات التي تساعدنا على التفريق بين السردية المجحفة والمتحاملة والسردية العادلة والمنصفة متوافرة ويسيرة وفي متناول الناس وليست حصرا على العلماء والباحثين في شؤون تحليل الخطاب وسردياته.
أفضل أداة تحليلية نقدية لتصنيف السرديات وعزلها عن بعضها هي التي تقع في خانة القول المأثور: "قل ولا تقل". بمعنى آخر، أنت مسموح لك أن تتفوه أو تسطر أو تردد السردية هذه، ولكن لا يحق في المقابل تفوهها أو كتابتها أو ترديدها وإن فعل فإن العقاب في انتظاره.
نعود إلى عنوان مقالنا في مسعى لتعريف "سردية الإبادة الجماعية". والتعريف لأي ظاهرة أو فكر أو أيديولوجيا من الأهمية بمكان. في غياب التعريف، نقع في فوضى، كما هو الشأن في مسائل تقع في صلب حياتنا اليوم، مع ذلك ليس هناك تعريف محدد لها، وتحضرني مفردة "الإرهاب" التي ترفض الدول المتنفذة في العالم تحديد ماهيتها، ومن هنا الفوضى العارمة في تقرير من يمكن أن يحمل توصيف "الإرهابي".
أظن أن الإشكالية والغموض والتعقيد الذي يرافق مفهوم الإرهاب يسري من عدة نواح على الإبادة الجماعية وسردياتها أيضا، ولو بنسبة أقل، لأن الإبادة الجماعية وسردياتها رافقت البشرية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، وستكون معنا رغم المأسي المهولة التي ترافقها.
والإبادة الجماعية، في إيجاز شديد، تعني القتل المتعمد لمجموعة من البشر من عرق محدد وشعب معين بهدف إفنائهم.
وللأمانة، فإن قراءة متفحصة للتاريخ تبرهن أن جريمة القتل المتعمد قد اقترفتها أغلب الأمم أو الدول المتسلطة، بيد أننا لن نجافي الحقيقة إن قلنا إن التاريخ يشهد أن الغرب له قصب السبق بين شعوب العالم في اقتراف هذه الجريمة الفظيعة كما ونوعا.
بعد أن ألقينا ضوءا ولو خافتا على الإبادة الجماعية كمفهوم، نعرج الأن على ماهية السردية التي تدلل عليها. وهاكم أمثلة حية انتقيتها من مجموعة كبيرة من السرديات التي ظهرت على السطح أخيرا وتؤشر إلى النية المبيتة لاقتراف الإبادة الجماعية. السردية هي خطاب، وكل خطاب يشكلنا، وكل خطاب يوضح ميولنا وما نبيته في دواخلنا، وإن سنحت الفرصة لنا لترجمناه على أرض الواقع.
هاكم أمثلة استقيتها أخيرا من قراءتي حول ما يقع من أحداث مروعة ومخيفة في الشرق الأوسط. ما يميز سردية الإبادة الجماعية أنها لدى أصحابها سردية حميدة. ليس لدى أصحابها وحسب، بل لدى من يسايرون أصحابها ويقدمون لهم الدعم والمدد لتنفيذ ما تأتي به سرديات الإبادة الجماعية التي ينطقونها أو يكتبونها. والناس تخشى أصحاب سرديات الإبادة الجماعية، ولا أخفيكم سرا أنني أخشاهم ولهذا لن أشير إلى أي أسماء أو تسميات، أي لن أسندها إلى أصحابها صراحة.
والسرديات هذه تبث الرعب في الأوصال، ولا سيما إن أتت ممن يمتلك من السلطة والقوة والجبروت، ما يمكنه من تنفيذها.
إن أراد صاحب سلطة أن ينتقم لحدث فظيع وبدلا من الاقتناص من المنفذين إذ به يصب جام غضبه وانتقامه على الناس برمتهم الذين لا ناقة ولا جمل لهم بالمنفذين مثل الأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين الأبرياء، انطلاقا من مقولة إن "الشعب برمته يتحمل الوزر. القول إن المدنيين لا علاقة لهم غير صحيح بالمرة. كان عليهم الانتفاض "ضد المتنفذين"، كان عليهم محاربة هذا النظام الشرير".
أول شريعة مكتوبة في العالم هي شريعة حمورابي، ظهرت في وادي الرافدين قبل نحو خمسة آلاف عام فيها نص يحرم معاقبة الولد بجريرة أبيه أو الزوجة بجريرة زوجها أو العبد بجريرة سيده، ونحن اليوم في العقد الثالث من القرن الـ21 بعد الميلاد.
وهاكم أمثلة حية أخرى على سردية الإبادة الجماعية لو أتت من طرف ضعيف لأقاموا الدنيا عليه ولم يقعدوها، ولكن القوي يفلت من العقاب:
"نحن في حرب دينية هنا. أنا مع... اعملوا ما تريدون القيام به للدفاع عن أنفسكم. قوموا بتسوية المكان بالأرض".
"نحن بحاجة إلى رد غير متكافئ... حول القطاع إلى مسلخ... انتهك أي قواعد في الطريق نحو النصر".
"أنت إما مع... وإلا أنك تدافع عن الإرهاب".
أكتفي بهذه الأمثلة وهي غيض من فيض تمثل سردية الإبادة الجماعية خير تمثيل، وأنا انتقيت من الأمثلة ما أمل أنه لن يوقعني في إشكال رغم أنني أعيش في السويد، بلد الحرية والديمقراطية الذي فيه يمكن أن تحرق نسخ من كتاب يؤمن نحو ملياري بشر بقدسيته وسماويته ولكن لا تستطيع أن تقول إن أصحاب سردية الإبادة الجماعية مجرمون أيضا.