النمو الاقتصادي والسياسات العامة والإنصاف
من منا لا يحب سعة الرزق؟ الناس مجبولون على حب الثروة، والرغبة في تحسين مستوى معيشتهم أو دخولهم. ولكن تحقيق البشرية مزيدا من الثروة والدخل لا يمكن أن يحصل دون وجود نمو كمي و/أو كيفي في الاقتصاد. الذي يعني ببساطة توسع الاقتصاد أو ازدياد حجمه، الذي بدوره لا يمكن أن يحصل دون ازدياد الإنتاج، تماما مثلما يحصل لنمو شركة الذي يعني أن إنتاجها مقوما بالمبيعات يزيد، طبعا بافتراض أن الأسعار لم تتغير.
أهمية النمو الاقتصادي لا ترجع فقط إلى حب الناس متع الحياة، بل هو متطلب لتحقيق - أو المحافظة على ما تحقق- حياة كريمة لعامة الناس داخل الوطن، وعدم تحقيق نمو اقتصادي، مع وجود تزايد سكاني يعني أن المجتمع قد أصبح أقل غنى أو أكثر فقرا.
وقد ارتبط في الذهن وعبر عقود أن تحقيق النمو الاقتصادي أو الانتعاش الاقتصادي في الدول النفطية مثل المملكة مرتبط بزيادة الدخل من النفط. لكن من المؤكد أن من الممكن تحقيق نمو اقتصادي دون اعتماد على النفط. وكثير من الدول ليس فيها نفط وقد حققت معدلات نمو عالية. ولذا فإن من المهم جدا أن يعرف أن عوائد النفط ليست سببا مباشرا، كما أنها ليست ضرورية لتحقيق النمو الاقتصادي. وإن كان هذا لا ينفي إمكانية كونها وسيلة لتعجيله. كما أن العكس صحيح فيمكن أن تكون وسيلة في تثبيطه. المهم أن هناك أسبابا أو عوامل للنمو، وليس من الضروري أن تعتمد هذه العوامل في كل زمان ومكان على عوائد نفطية.
على المدى الطويل هناك ثلاثة عوامل أساسية لا يمكن أن يكون هناك إنتاج بدونها: رأس المال البشري، ورأس المال المادي، والتقنية. والتركيز على الأول.
وحيث إن النمو الاقتصادي يقاس بنمو الإنتاج، فإن تحسين كل أو أحد عوامل الإنتاج الثلاثة كما و/أو كيفا بما يؤدي إلى زيادة الإنتاج هو المحور والأساس لتحقيق نمو اقتصادي.
يمكن للسياسات العامة الحكومية في أي دولة أن تعمل على تحسين أو تثبيط إنتاجية كل أو بعض عوامل الإنتاج، ومن ثم فهي تعمل على زيادة أو تدهور النمو الاقتصادي. والسياسات العامة هنا يجدر أن أشير إلى أنها تعبير واسع يدخل فيه كل القرارات والتنظيمات والإجراءات الحكومية الحاكمة لعوامل الإنتاج والأنشطة الاقتصادية عامة.
عن العامل الأول رأس المال البشري، يطرح سؤال جوهري، يمكن أن يصاغ بالتالي. ما العوامل والظروف التي ترفع إنتاجية الفرد؟
التعليم والتدريب والتفاني أو الإخلاص في أداء العمل والأمان النفسي والانضباط السلوكي أو ما يسمى بأخلاقيات العمل والشعور بالعدل والإنصاف. وأن تحسين مستوى التعليم أو رفع درجة جودته: يعمل على رفع إنتاجية الفرد أي رفع إنتاجية رأس المال البشري.
ماذا عن السياسة الاقتصادية والإنصاف؟ ومن باب التوضيح، فإن السياسات النقدية والمالية العامة والخاصة موضوعها طويل، ولذا فإن المقال لا يدخل في تفاصيل حولها.
تركز السياسات الاقتصادية على تحقيق النمو الاقتصادي وخفض نسبة البطالة، وتحقيق النمو الاقتصادي بطبيعته يعني ارتفاع دخول الناس ومستويات معيشتهم، غير أن هذا التحسن لا يصيب الجميع، فهناك فئة غير محظوظة، لا تستفيد بنفسها من ارتفاع مستوى المعيشة، ولا من الازدهار الاقتصادي، فماذا يجب على الحكومات أن تفعل ليس فقط من أجل زيادة حجم المائدة أو قطعة الكيك، ولكن أيضا من أجل أن يحصل كل فرد على حد أدنى من نصيب عادل. بتعبير آخر، القضاء على الفقر.
إن تفاوت الناس في الدخول والأرزاق أمر معروف مشاهد. ومن الصعب جدا الوصول إلى تصور موحد تجاه التفاوت، نظرا إلى أن المجتمعات لديها تصورات ومعايير اجتماعية وثقافية وسياسية متفاوتة. إلا أنه مهما كان التفاوت، فإن هناك اتفاقا بين المجتمعات على أن التفاوت في الدخول أو الثروات أو الفرص مهما كان فيجب ألا يتعارض مع العدالة.
بتعبير آخر، من أسباب العناية بالموضوع الحاجة إليه من منطلقات العدل والعدالة الاجتماعية والحد من الفقر ومكافحة التمييز وتحسين الترابط الاجتماعي، وتبعا تقليل الاتساع في الفجوات الاجتماعية.
ما الآثار في الأجيال المقبلة؟ موضوع طويل، لعلي أكتب عنه مستقبلا.
هناك موضوع لا بد أن يراعى في رسم السياسات، وهو مدى جودة تحقيق الأهداف أي النتائج. وهذه الجودة ترتبط بما يعمل للمساواة وبعبارة أدق تحسين الفرص بين الناس بمختلف فئاتهم. وطبعا مراعاة النتائج أمامها عقبات شتى. وكلما رسمت السياسات رسما أكثر جودة، انعكس على العقبات بتقليلها.
وهناك قضايا أذكر عناوينها، أما الدخول في تفاصيلها فطويل. من أهم القضايا كيفية رفع مستوى التوفير أو الادخار، وتيسير فهم السياسات والتعليمات والأنظمة الحكومية، وتوفير الانسجام بينها.
أخيرا، إن النمو الاقتصادي لا يعني الكمال. النمو ليس خاليا من المشكلات. فهذه طبيعة الحياة الدنيا.