الخيار الفني
أحد مظاهر العصر اقتصاديا دور "الماليات" في الإدارة الاقتصادية، إلى حد أن التفرعات المالية أصبحت أكثر أهمية لدى كثير من الفعاليات الاقتصادية، بل إن بعضا بدأ يتابع ويقيم الاقتصاد بناء على الحيثيات المالية. الظاهرة المالية كما في الغرب وبعض الدول المتقدمة Financialization ربما مفهومة من حيث المرحلة، لكن يصعب أن تجد لها تبريرا موضوعيا في الدول النامية. في هذا الصدد اطلعت على ورقة بحثية للوكالة الوطنية للأبحاث الاقتصادية الأمريكية، بعنوان "درجة وتوجه الاختراعات في الثورة الصناعية البريطانية ـ الحوافز والمؤسسات". المشترك بين مقدمة العمود وعنوان البحث مدى مركزية مهارات الأفراد والتدريب الفني والربط بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي من ناحية، والإطار المؤسسي والحوافز في المجتمع من ناحية أخرى.
انفراد بريطانيا بالثورة الصناعية في منتصف القرن الـ18 تقريبا ما زال مركز اهتمام كثير من المهتمين بالتنمية الاقتصادية. لذلك هناك زوايا كثيرة، لكن هنا سأستخلص النواحي البشرية الفنية لأنها على النقيض من نواحي "الماليات" من ناحية، وأقرب إلى فهم طبيعة التحديات المعاصرة. كثير يتلمس أسباب النهضة في الأسماء الكبيرة، مثل نيوتن وجيمس وات وفرادي وغيرهم، على الرغم من دور هؤلاء، لكن دون الفني المتمكن من التنفيذ بدقة سيكونون منظرين دون تغيير الواقع. هناك ثلاثة عوامل بشرية مفصلية في نجاح التجربة: الأول، إن التدريب على رأس العمل كان الصيغة المسيطرة لإعداد المهارات، فالتعليم الرسمي لعب دورا محدودا. الثاني، كثير من الفنيين الأوائل اعتمدوا على السرية وتعظيم الاستفادة من الفرص الأولى لتعظيم الاستفادة من إبداعاتهم. الثالث، المتمكنون منهم سعوا لنشر أبحاث ومناقشتها، حتى نقاش اجتماعي في روح العصر التنويري، وبالتالي أسهموا في نشر المعرفة والتحفيز. البحث يفرق بين تجربة صناعة النسيج التي عرفت بها بريطانيا وبين التصنيع والمهن التي تهيئ لها. التقدم حدث في الحديد والورق والزجاج والأسمنت والتعدين وصناعة السفن. من أسباب النجاح ارتفاع الأجور، وبالتالي محاولة الصناع رفع إنتاجية العمال للحد من توظيفهم، وكذلك دور توافر الفحم كمصدر للطاقة، وبالتالي قيام صناعات تعتمد على الفحم وما يدور في فلك الطاقة. ظهرت الكفاءة والفرق في المطالبة برفع الدقة والقدرات التشغيلية.
تحليليا هناك ثلاثة أنواع من النشاطات المكونة لمنظومة الإبداع: الأول، كان الاختراعات الكبيرة التي فتحت آفاقا جديدة، التي عرفنا عنها من خلال المعارف التعليمية، مثل الماكينة البخارية واكتشاف الكهرباء وآلة الاحتراق الداخلي والدينامو.
بعض هذه الاختراعات قد لا تكون في بريطانيا، لكن تحويرها عمليا حدث هناك. الثاني، اختراعات صغيرة متعددة حلت مشكلات عملية في الاختراعات الكبيرة، وكيفت البعض الآخر لمجالات صناعية أخرى، التي غالبا لم تصل إلى مستوى براءة اختراع. الثالث، وربما هو الذي أوجد الميزة التنافسية لبريطانيا، يتمثل في أعداد مؤثرة من العمال والفنيين المهرة، فهؤلاء غالبا لم يكونوا مخترعين أو أصحاب أفكار جديدة، لكنهم ذوو مهارات وكفاءة في التنفيذ للتركيب والتصليح. أحيانا الدور غير واضح بين الثاني والثالث، لكن هناك ما يكفي من الفرق لتمييز المراحل عمليا.
إجمالا وعودة إلى مقدمة المقال، هناك فرق نوعي في الطرح النظري والتخطيطي بين اقتصادات تقودها الاعتبارات المالية كنظرة فوقية لإدارة الاقتصاد، وبين نظرة من القاعدة تقودها كفاءة ودقة الفني والمهندس والبيئة الحاضنة من حيثيات الحوافز والفرز المعرفي، وتقسيم المهام والتدريب العملي لرفع الكفاءة والدقة.