«مغريات» التضخم والتحديات
"لا يوجد سبب لعدم وصول التضخم إلى المستوى المستهدف"
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية
ينتهي العام الجاري، والهم الأول لدى الحكومات حول العالم، يبقى كيفية ضمان نمو مقبول في العام الجديد، في حين أن بعض الدول ترى في "الهبوط الناعم" لاقتصاداتها، بمنزلة "انتصار" لمسار التصحيح. لماذا؟ لأن البديل عن هذا الهبوط، هو الركود البغيض الذي لا تصعب قراءة مساحته الزمنية المستقبلية. النمو، وبعد مصاعب اقتصادية دامت لأكثر من ثلاثة أعوام، يمثل حجر الزاوية لاستعادة الاستقرار الاقتصادي، حتى لو كانت نسبة هذا النمو متواضعة. فالهدف الرئيس، هو أن تتحرك الاقتصادات في الحدود التي توفر لها قوة دفع، والتخلص بصورة أو بأخرى من الآثار "المدمرة" عليه الآتية من جهة التشديد النقدي، والمصاعب الناجمة عن سلسلة من "المعطلات" كالحرب الجارية في أوكرانيا، والخلافات الجيوسياسية، فضلا عن عدم استقرار سلاسل التوريد بالصورة التي كانت عليها في العقد الماضي.
الساحة متاحة الآن للنظر باهتمام إلى مسار سياسة التشديد النقدي، التي لا تزال السمة الرئيسة حول العالم كله تقريبا. لكن مع ذلك، هناك محاذير جمة فيما يرتبط بأي محاولة لتخفيفها في وقت غير مناسب، على الأقل من الجانب المحلي للاقتصادات. صحيح أنه تم النجاح حقا في خفض التضخم إلى النصف في كثير من الدول في غضون عامين، لكن الصحيح أيضا، أن معدلاته الراهنة لا تزال أعلى من المستوى المستهدف عند 2 في المائة. فحتى أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة التي نجحت معها سياسة التشديد النقدي، وأوصلتها إلى 3 في المائة، عادت من جديد إلى ما دون 4 في المائة في غضون أشهر قليلة. أي أنه لا توجد ضمانات قوية لتحقيق مستهدف التضخم في الأشهر القليلة المقبلة على الأقل.
هنا يمكن النظر باهتمام إلى التصريحات الأخيرة لكريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد الدولي، التي حذرت فيها البنوك المركزية حول العالم "ولا سيما الرئيسة منها"، من مغبة تخفيف إجراءاتها الرامية إلى مواجهة التضخم. وقالت بوضوح "في بعض الأحيان تتعجل بعض الدول في إعلان النصر، ثم يترسخ التضخم بشكل أكبر". هذا صحيح بالطبع، خصوصا إذا ما نظرنا إلى أن التشديد النقدي الذي أطلق من أجل احتواء الموجة التضخمية الهائلة، أتى في الواقع بعد أعوام عديدة من التيسير، بحيث بلغت تكاليف الاقتراض في عدد كبير من الدول المستوى الصفري، بما في ذلك دول منطقة اليورو. فكل الاقتصادات تتوق إلى مرحلة مشابهة قريبة، لضمان معدلات نمو، تخفف الأعباء عن كاهل الحكومات، بما في ذلك ارتفاع كبير في المديونية العامة، بلغ في بعض الدول ضعف ناتجها المحلي الإجمالي. دون أن ننسى، أعباء الإنفاق العام في مواجهة تداعيات جائحة كورونا، الذي أضاف ثقلا جديدا وطارئا غير متوقع.
الواضح أن البنوك المركزية لا تزال ملتزمة بعدم "الفرح" المطلق جراء تراجع أسعار المستهلكين في دولها. ولأن الأمر كذلك، لم تعمد على خفض الفائدة في الآونة الأخيرة، بل قامت بتثبيتها، دون أن تغلق الباب لرفعها في المراجعات المقبلة، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك. لكن بلا شك، تمثل المستويات الراهنة للتضخم بعض "المغريات" في وقت يسعى فيه المشرعون هنا وهناك، لضمان مستويات نمو في العام المقبل يمكن البناء عليها لبقية أعوام العقد الحالي. بديل النمو "بصرف النظر عن مستوياته"، يعني تباطؤا اقتصاديا في حالات محددة، وركودا في حالات أخرى. من هنا يمكن عد أي مستوى للنمو بمنزلة نجاح في مرحلة حساسة يمر بها الاقتصاد العالمي ككل. ومع ذلك، فضل المشرعون الأمريكيون الإبقاء على مستويات للفائدة ما بين 5.25 و5.5 في المائة، وإبقاءها في أعلى مستوى لها منذ 2001. لأن خفضها في الوقت الراهن، يمكن أن يخرج المسألة عن السيطرة.
الواضح هنا، أن مستويات التضخم متباينة بين دولة وأخرى، تماما كما تتباين "نجاحات" خفضها بين اقتصاد وآخر. وهذا يعني، أن خطوات خفض الفائدة، ستختلف في المستقبل القريب من دولة إلى أخرى. في بريطانيا مثلا لا يزال التضخم عند مستوى مرتفع 5.6 في المائة، في حين سجل في منطقة اليورو أخيرا 2.9 في المائة على أساس سنوي، وبلغ في الولايات المتحدة 3.14 في المائة. لأن الأمر كذلك، فلا غرابة أن تقدم بنوك مركزية في الربع الأول من العام المقبل على خفض طفيف لتكاليف الاقتراض، وذلك وفقا لاعتباراتها الاقتصادية المحلية الخالصة. في كل الأحوال، وصلت المعركة ضد التضخم إلى المربع الأخير كما يبدو من خلال المؤشرات الدورية. وفي هذا المربع تكمن الخطورة في التفاؤل غير المحسوب، أو الفرح المبالغ فيه. فالمرحلة حساسة جدا، وأي خطأ سيعيد الأمور إلى مربعات مرت بها الاقتصادات حول العالم، وهي مساحات مليئة بالضغوط والمخاطر والمشكلات أيضا.
في العام المقبل، ستتضح الصورة أكثر على صعيد ما يمكن وصفه بـ"مغريات" التضخم، وبمسار تكاليف الاقتراض المرتفعة، وبتحريك أكبر لعجلات الاقتصادات التي عانت كثيرا منذ مطلع العقد الحالي.