التراجع الحميد
تم تداول رغبة وزارة التعليم في مراجعة خطة مقترحة لربط العلاوة السنوية بالرخصة المهنية للمعلمين.
المفترض أن يبدأ النظام الجديد مع بداية 2025، ويبدو أن السبب الرئيس للتراجع هو المقارنة بموظفي القطاع العام، وبالتالي وضع المعلم في ميزان مختلف عن الآخرين. تراجع يبدو منطقيا، إذ إن هدف الاقتراح كان لرفع كفاءة المعلم والتأكد من استمرار الكفاءة من خلال تجديد الرخصة دوريا. جاء التراجع لأسباب موضوعية. لكن جوهر الموضوع، رفع كفاءة المعلم واستمرارها والمساءلة والتمييز بين أصحاب المهنة وتحفيزهم لن يختفي بل يزداد إلحاحا لدينا وغيرنا. لست معلما، لكن مسألة التنمية الاقتصادية لا تفارق أي موضوع يمس التنمية البشرية ومنظومة التعليم. هناك ثلاث زوايا لعلها تساعدنا على الوصول إلى حل.
الأولى، تظهر في مدى تأثير المنظومة العامة في مهنة معينة، فلا يمكن أن ننفرد بمهنة معينة إلا على سبيل التجريب وهذا صعب لجميع القطاع لأن التكلفة المعنوية والمالية ستكون عالية. لكن هذا لا يمنع من التجريب على نطاق ضيق، خاصة أننا عادة لا نميل للتجريب. التحدي جاء بسبب أن الشأن التنموي شامل بطبيعته فلا يمكن أن تكون "الرغبة والتوجه" للتحديث جزئية ولكن التدرج ضروري.
تسعى المملكة بجدية للتحديث في كل النواحي ولذلك لدى كل وزارة خطط طموحة ومعايير للقياس والمراجعة، لعل أحدها ما أناقشه هنا. لب الموضوع رفع الكفاءة من خلال توظيف الحوافز.
الثانية، يقول دوجلاس نورث أحد مؤسسي الاقتصاد المؤسسي: "إن الحوافز هي كل شيء" يقصد أن نمط وتراتيبية الحوافز في كل مجتمع عامل أساس محدد لنجاحه. إدارة الحوافز من أصعب الوظائف لأن لها شقا ماديا وآخر معنويا. العلاقة بين المادي والمعنوي تتغير بحسب ظروف المجتمع وحالته الراهنة ومشوار طريقه في الممارسة ليس التعليمية فقط ولكن التوظيفية والمهنية وحتى إعداد الكوادر القيادية الواعدة.
تاريخيا للمعلم دور محوري في تجاربنا الشخصية، ولذلك فإن القيمة المعنوية للمعلم مفصلية في حياة الجميع، لكن أحيانا تمر على المجتمعات فترات يضعف فيها وهج المهنة والاهتمام بها. أتذكر في دراسة لماكينزي في مقارنة المستوى التحصيلي بين 20 بلدا متنوعة في المراحل التنموية اقتصاديا وصلت إلى أن "الاهتمام بمركزية" المعلم في المجتمع هي العامل الأهم في التفوق العلمي بمسافة. العامل المادي ربما أسهل من العامل المعنوي في الإدارة وليس في الرسالة. تسخير الرسالة والتواصل المعنوي بين المعلم ومحيطه يتطلب تفكيرا وإعادة نسج لعلاقة مفصلية مجتمعيا موطنها الأساس العائلة. وهذا يأخذنا لطبيعة وواقع المجتمع كما هي والخيارات المستقبلية.
الثالثة، هذه مسائل خاصة لكل مجتمع ويجب حلها داخليا بالنقاش بين المختصين والمهتمين من السعوديين فقط. موضوع في جوهره طابع وطني، خاصة أن تجربة التعليم في المملكة ليست قصيرة من ناحية، ولكن الأهم أنه كما حاولت إيضاحه في النقطة الثانية منظومة الحوافز لكل مجتمع خاصة التكوين، ولذلك ما يناسب الدول المتقدمة أو حتى الدول المتوسطة لا بد أن يكون مختلفا جذريا وتصعب المقارنة ونقل التجارب. فمثلا أبلغني أحد مديري التعليم السابقين أن مدير مدرسة عامة في سنغافورة لديه السلطة الكاملة في توظيف وفصل المعلم. الوصول إلى هذه المرحلة لن يكون سريعا ولكن المهم التوجه والقياس والعدالة والقبول المجتمعي.
ليست لدي معادلة خاصة، لكن هذه الزوايا الثلاث تكفي لتغيير روح العمل. أعتقد أن لدينا القدرة في الوزارة وخارجها على الوصول إلى الحل الأمثل لنا من خلال التعامل من منظار الزوايا الثلاث. التراجع الحميد جزء من مخاض فكري وإداري لنصل جميعا في ظل رؤية ولي العهد رئيس مجلس الوزراء للتقدم ببلادنا في جميع المجالات.