القراءة والقارئ .. فن الاستغناء أم دربة الانكفاء
سادت مقولة في عالم الأدب تفيد بأن كل الكتابات، لا تعدو أن تكون سوى تناص مع كتابات أدباء ومبدعين سابقين، فتراكمات القراءة تلعب دورا مهما في بناء الشخصية الإبداعية، حتى قيل إن ما يقرأ يظهر دون وعي فيما يكتب، ففي بعض الأحيان يكون المكتوب مجرد انعكاس للمقروء. ظاهريا، تبدو المعادلة بسيطة للغاية، لكن بواطن الأمور في غاية الاشتباك والتعقيد، فليست كل القراءات كفيلة بتحقيق ذلك، إذ شتان بين قراءة وأخرى. ما يمنح تساؤل الكاتب الأرجنتيني ريكادو بيجليا، كثيرا من المشروعية، حين تساءل في مؤلفه "القارئ الأخير"، قائلا: "إن سؤال (ما القارئ؟) يعني، في النهاية، سؤال: ما الأدب؟ وهذا السؤال الذي يشكله ليس سؤالا بعيدا عن ماهيته، بل هو شرط وجوده".
يذكر مارسيل بروست، في كتابه "عن القراءة"، أن عديدا من الكتاب كانوا يحبون قراءة صفحة من كتاب جيد، قبل أن يشرعوا في الكتابة، فمثلا من النادر أن يشرع الكاتب والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون في الكتابة، قبل أن يعيد قراءة بضع صفحات لأفلاطون، وكانت قراءة أعمال الشاعر الروماني فيرجل توصل الإيطالي دانتي ألجيري إلى عتبة الفردوس.
هذا ما يجعل القراءة فنا لا يمتلك الجميع ناصيته، فبين قارئ تحوله النصوص إلى بطل تراجيدي، يرفض الإذعان في مسعاه للعثور عن المعنى، وقارئ آخر ينصب نفسه محققا، يعمل جاهدا على فك شفرة النص، وثالث يدرك أن هذا العالم المترع بالكتب، يتيح لنا فرصا لإعادة القراءة، لكن بطريقة أخرى، ما يجعله هنا ينافس الكاتب في التخييل، بصيغة أخرى نقول، إذا كان الراوي هو من ينقل المعنى الذي يعيشه، فالقارئ هو من يبحث عن المعنى في هذه التجربة. تتعدد القراءة إذن باختلاف القراء، فالسؤال لا يتعلق بالقراءة، بل بالقارئ، أين يقرأ؟ لماذا يقرأ؟ في أي ظروف يقرأ؟ باختصار، ما هي حكايته؟
وراء كل حكاية قارئ، فهناك القارئ المدمن الذي لا يستطيع التوقف عن القراءة، والقارئ الأرق المتيقظ دوما، والقارئ الوفي الذي انتقلت عنده القراءة من مجرد ممارسة لتصبح أسلوب حياة. عن أمثال هؤلاء كتب خورخي لويس بورخيس، أن "القراءة هي فن المسافة والنطاق"، ففي عيادة القراءة ليس من يملك بصرا هو أفضل من يقرأ. واستحق هؤلاء، لدى الأديب الروسي فلاديمير نابوكوف، وصف "القارئ الجيد"، القارئ المثير للإعجاب الذي لا يتماهى مع شخصيات الكتاب، إنما مع الكاتب الذي ركب الكتاب".
في هذه الزمرة من القراء، نجد أسماء ثقيلة في عالم النضال، أمثال الزعيم تشي جيفارا الذي نسجت القراءة حياته، فقد كان، حسب شهادة أخيه روبيرتو، "يحبس نفسه في الحمام ليقرأ". وكشف بنفسه، في أحد الحوارات، عن أن القراءة والتبغ نقطة ضعفه. وقد زكى رفاق الميدان ذاك البوح، بقول أحدهم: "قارئ لا يكل، عندما كنا نستريح، وبينما كنا موتى من التعب، ونغمض عيوننا في محاولة للنوم، كان هو يفتح كتابا". والمنظر الماركسي أنطونيو جرامشي الذي حوله السجن إلى قارئ شره، يقرأ طوال الوقت، ما يستطيع تهريبه إلى داخل سجون بينيتو موسوليني.
إنه سحر هذه الآلة العجيبة المسماة القراءة، أو بلسان بروست جوهر القراءة، الذي يكمن في معجزة التواصل الخصم في خضم الوحدة. فالفاعل، أي الفاعل، في نهاية المطاف يجسد لحظة انسحاب من ضجيج الواقع، وإعلان للاستقلال التام عن العالم المادي، ورضا تام بالسكون والسكنية. أما القراءة، فهي فعل مريح ومنعزل وهادئ، يقف في الطرف الآخر المخاصم للحياة، فالكتب والقراءة هما تعبير عن حالة العزلة عن الخارج وانكفاء على الدواخل، فيما يشبه الاكتفاء الذاتي والاستعاضة عن ملذات الحياة عن طريق القراءة. ألم يقل رائد الأدب الإنجليزي وليم شكسبير: "كانت مكتبتي تكفيني مثل دوقية".
مهما ادعى القراء، تبقى القراءة نوعا من الطلاق مع الواقع وقطيعة مع العالم، فالقارئ بصدد ولوج عتبة الحياة الروحية، أي نعم، إنه عالم آخر يصنعه أو على الأقل يسهم بطريقته الخاصة في تشكيله. ففي عالم الوحدة والانعزال يصادف مبدعين وأدباء الحقب الغابرة، وذلك من خلال ما خلفوه لنا من آثار خالدة، تشهد على فكرهم العصي على الانمحاء، وعلى عصرهم الذي نتسلل إليه خفية، وبلا ضجيج أو ضوضاء، بواسطة القراءة التي تجعل المرء عابرا للحقب والأزمنة.
عوالم صيرت كثيرين غرباء بين أهلهم ووسط عشيرتهم، فكتب عبدالقادر المازني كاشفا "أوجاعه" بعد طول استغراق، "وبحسبي من ذلك أن صارت مجالس الناس وأحاديثهم عندي غثة لا تكاد تساغ، ولا تستمرأ، وإني مضطر أن أعالج نفسي لأطيقها وأصبر عليها، ولا أقول لأستمتع بها، وليس ذلك لعزوف طبيعي عن الناس وكراهة مخالطتهم، ولكنها الكتب قبحها الله! ردتني كالمترف الذي تؤذيه خشونة العيش، أليس قد عشت بين خير العقول وأحسن النفوس وألفت أن أتناول عصارة الأذهان وخلاصتها النقية".
ويحدث أحيانا أن ينسج القارئ صداقة مع أحدهم، إلا أنها في نهاية المطاف صداقة صادقة تعود إلى نقائها الأصلي، خلافا للصداقة المزيفة أو "صداقة النقرة" السائدة على منصات التواصل الاجتماعي، إذ لا مكان للمجاملة مع الكتب، فإذا قضى الواحد اليوم أو الأمسية أو حتى الشهر برفقة كتاب/ صديق، فمرد ذلك إلى رغبته فعلا في الأمر، فلا مصلحة ولا عائد من وراء ذلك.
ذلك ما يحول القراء، في نظر العامة، إلى مجانين وخبل، فقد سبق لوالد فينسنت فان خوخ أن وبخ ابنه "الخطأ كله هو خطأ هذه الكتب الفرنسية التي تقرأها، إنك تواظب على رفقة المجانين". عمليا، ثمة قاسم مشترك فالتعامل الأعمى مع الكتب نوع من الجنون لدى القارئ، فـ "تمام كما يبتلى المجانين بحوار وهمي، يتردد صداه في مكان ما في أذهانهم، فإن القراء يتورطون أيضا بحوار مشابه".
إنها القراءة/ الكتابة، أحد أعظم الاختراعات في التاريخ البشري، التي استطاعت أن تحافظ على بريقها، في علياء وشموخ، بقدرتها على سلب العقول والألباب على مر الحقب والعصور. وتبقى كذلك القاعدة الصلبة التي استندت عليها البشرية للرقي في مدارج المدنية والتقدم، فلولا التخزين الذي يسمح بالتراكم ما كانت الحضارة الإنسانية لتبلغ ما نعيش اليوم، من تطور سمح بقراءة هذه الكلمات على ورق أو شاشة ضوئية لهاتف نقال أو حاسوب.