جني التضخم يعود إلى القمقم
يظل التضخم الموضوع الرئيس بالنسبة إلى المستثمرين. فهم ما يحدث للتضخم هو المفتاح إلى التنبؤ بما ستفعله البنوك المركزية، وبالتالي كيفية أداء السندات والأسهم. لكننا لا ننظر جميعا إلى التضخم بالطريقة نفسها، وهذا يحدث الآن فرقا كبيرا في الاستنتاجات المستخلصة بشأن الاقتصاد والسياسة النقدية والأسواق.
ينشر إحصائيون وطنيون بيانات عن أسعار المستهلك شهريا. وهذا أمر شائع. في أوروبا، عندما نتحدث عن التضخم، فإننا نقارن كيف تغيرت الأسعار خلال العام الماضي، وذلك لسبب بسيط للغاية. تظهر أسعار كثيرة نمطا موسميا واضحا يمكن أن يحجب معدل التضخم الأساسي الذي يهمنا. وليس من المنطقي القول إننا نبدأ كل عام بانكماش لمجرد أن هناك دائما مبيعات بعد الكريسماس، وأن أسعار كثير من السلع تميل إلى الانخفاض بين شهري ديسمبر ويناير.
إن المقارنات مع العام الماضي تلتف على هذه المشكلة. لكنها تلتف بتكلفة. يمكن أن تتغير ظروف الاقتصاد الكلي على مدار العام، وبالتالي يمكن أن يتغير معدل التضخم الأساسي. سيكون التغيير مقارنة بالعام الماضي بطيئا حتما في استيعاب تغيير مفاجئ ومهم في هذا الاتجاه الأساسي.
في الولايات المتحدة يفعل الإحصائيون شيئا مختلفا. إذ يقدرون الاتجاه الموسمي ثم يزيلونه من البيانات. ويمكننا الآن تتبع المعدل الأساسي لتغير الأسعار من شهر إلى آخر. وبوسعنا أن نقيم ما إذا كانت الأسعار ترتفع بشكل مستمر وبسرعة كبيرة كل شهر أم لا، أو بالمصطلح الخاص بالصناعة، ما إذا كان التضخم المرتفع مستمرا.
يمكننا أن نفعل الشيء نفسه في أوروبا. ويمكن أن يكون التعديل الموسمي بسيطا كنقرة زر في حزمة برامج. ينشر البنك المركزي الأوروبي بيانات معدلة موسميا لأولئك الذين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم.
ومع ذلك، يظل التركيز في أوروبا منصبا على كيفية تغير الأسعار غير المعدلة خلال العام الماضي. ومن هذا المنظور، فإن التضخم آخذ في الانخفاض لكنه لا يزال مرتفعا للغاية. ليس من المستغرب إذن أن يصر كثير من المعلقين على أن أسعار الفائدة يجب أن تظل مرتفعة لإخراج التضخم من النظام.
سيكون انطباعك مختلفا تماما إذا ركزت على الاتجاه الأخير في البيانات المعدلة موسميا. أصبحت وتيرة تراجع التضخم أكثر حدة، ويبدو معدل التضخم الحالي أقل إثارة للقلق كثيرا. والواقع أن بيانات البنك المركزي الأوروبي تشير إلى أن التضخم الأساسي تحول إلى المنطقة السلبية في منطقة اليورو في الشهر الماضي الذي لدينا بيانات عنه. وحتى لو تبين أن أحدث البيانات ضعيفة إلى حد غريب، فإن الاتجاه واضح.
القصة مشابهة في المملكة المتحدة. ترتفع الأسعار بمعدل يمكن التحكم فيه بشكل أكبر من شهر إلى آخر، لكن وتيرة الزيادات القوية في وقت سابق من العام تعني أن التغيير مقارنة بالعام الماضي لا يزال مرتفعا. ارتفعت الأسعار الاستهلاكية الأساسية 5.1 في المائة مقارنة بالعام الماضي في نوفمبر، وهي أقل بكثير من التوقعات الإجماعية. والأهم من ذلك، أن الأسعار الأساسية المعدلة موسميا ظلت ثابتة بشكل أساسي كما كانت عليه قبل شهر.
أيضا لدينا قصة مشابهة مع الأجور. كان المقياس المفضل للأجور في القطاع الخاص لدى بنك إنجلترا يتزايد بمعدل سريع للغاية في فصل الربيع. وارتفعت الأجور كثيرا مقارنة بما كانت عليه قبل عام. لكن معدل ارتفاع الأجور من شهر إلى آخر تباطأ بشكل كبير منذ الربيع. في الواقع، انخفضت الأجور فعليا في الشهر الأخير الذي لدينا بيانات عنه. مرة أخرى، يمكن أن يكون ذلك مجرد ضجيج، لكن الإشارة واضحة.
ليس من الصعب إذن أن نفهم السبب وراء ثقة المستثمرين المتزايدة بأن دورة رفع أسعار الفائدة قد اكتملت وأن تخفيضات أسعار الفائدة ستأتي قريبا. الأسعار أعلى بكثير مما كانت عليه قبل عام. لكن فترة الارتفاع السريع في الأسعار تتراجع وتصبح أقل تأثيرا مع مرور الوقت. ولم يثبت التضخم أنه مستمر.
على العكس من ذلك، تباطأ معدل التضخم الأساسي بشكل كبير في الأشهر الأخيرة. وإذا نظرت إلى الكيفية التي تغيرت بها الأجور والأسعار على مدى الشهر الماضي، وليس على مدى العام الماضي، فستستنتج أن جني التضخم قد يعود بالفعل إلى القمقم.
استبعاد إمكانية عودة تسارع الأجور والأسعار بعد التجربة المؤلمة التي شهدتها الأعوام الأخيرة يتطلب خبيرا اقتصاديا شجاعا. ومع ذلك، فإن الارتفاع الكبير والمستدام يبدو أقل احتمالا الآن.
في الوقت الحالي، يبدو أن أسعار الفائدة ستظل ظاهريا مرتفعة كتأمين ضد هذا الاحتمال. لكن مع وجود أسعار الفائدة في المنطقة المقيدة، فإن السؤال المطروح بشكل متزايد الآن هو ما إذا كان الاتجاه الأساسي للتضخم سيستمر في التباطؤ في الأشهر المقبلة. ليس من المستحيل أن يصبح التضخم عما قريب منخفضا للغاية على نحو مقلق. وفي هذه الحالة، لا يزال المستثمرون يقللون تقدير عدد التخفيضات المقبلة في الفائدة.
*رئيس قسم أبحاث الاقتصاد الكلي في "بي إن بي باريبا أسيت مانجمنت".