مداراة صحة الموظفين العقلية .. بين الدلال والجدوى
مع اقتراب 2024 وتلاشي ذكريات الإغلاق في جائحة كوفيد، تحاول الشركات في كل مكان إرساء وضع طبيعي جديد. لقد اختارت بعض الشركات الكبرى في وول ستريت العودة إلى مكاتبها والعمل خمسة أيام كاملة. وترى شركات أخرى ميزة تنافسية في تقديم العمل عن بعد بشكل دائم، أو المزج بينهما بعناية.
لكن بعض التغييرات في ثقافة مكان العمل لن تزول. لقد تسارع التحول الذي دام عقودا في طريقة تفاعل أصحاب العمل والموظفين. العمال الذين أبقوا صراعاتهم الشخصية مع التوتر والاكتئاب والقلق في طي الكتمان، يشعرون الآن براحة أكبر في المشاركة وطلب المساعدة.
وبدلا من أن تتراجع مع الجائحة، لا تزال الطلبات على الدعم النفسي في العمل في ارتفاع، وبدأت شركات كثيرة رؤية مثل هذه العروض وسيلة لجذب العمال والاحتفاظ بهم. وهذا يعني أن المديرين الإداريين بحاجة للتعامل بشكل مباشر مع قضايا الصحة العقلية والتوازن بين العمل والحياة، سواء أرادوا ذلك أم لا.
والأمثلة ظاهرة في كل مكان، لكن التحول واضح بشكل خاص في قطاع الخدمات المالية. تاريخيا، كان هذا النوع من العمل يتطلب ساعات عمل قاسية وقادت شركات كثيرة في القطاع جهود إعادة الموظفين إلى مكاتبهم.
لكن التغيير يحدث. فقد زاد بنك أوف نيويورك ميلون أخيرا عدد جلسات العلاج المجانية المتاحة للموظفين دون الحاجة إلى إحالة رسمية من خمس جلسات إلى 12، ويقدم بنك جولدمان ساكس تدريبا على مسائل الصحة العقلية لجميع المديرين التنفيذيين في بداية العام المقبل.
هذه الجهود ليست مجرد مسألة كرم أو عناية أبوية. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن 12 مليار يوم عمل بقيمة تريليون دولار سنويا من الإنتاجية تضيع سنويا بسبب الاكتئاب والقلق. وفي الولايات المتحدة، عانى نحو ربع البالغين مرضا عقليا في العام الماضي، بنسبة مشابهه لعام 2021. كان احتمال أن يبلغ الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و25 عاما عن الأعراض أعلى بأكثر من الضعف ممن تزيد أعمارهم على 50 عاما، 36 في المائة مقابل 14 في المائة.
أفاد أصحاب العمل أن توفير الرعاية الصحية العقلية يساعد على تقليل الغياب ومنع الأمراض على المدى الطويل. تقول جاكلين آرثر، كبيرة مسؤولي الموارد البشرية في بنك جولدمان: "إننا بحاجة لتعزيز ثقافة يتم فيها تشجيع الناس على التحدث عن مشكلاتهم وطلب المساعدة عندما يحتاجونها. التدخل المبكر مهم حقا".
كما تشير دراسات استقصائية إلى أن الموظفين يركزون الآن بشكل كبير على دعم الصحة العقلية عند اختيار جهة العمل، حيث قال 81 في المائة منهم لاستطلاع أجرته مؤسسة هاريس أخيرا، إن ذلك سيكون "اعتبارا مهما" في بحثهم المقبل عن عمل.
لا يرى الجميع هذا الأمر إيجابيا. حذرت مجلة "ذا إيكونوميست" أخيرا في مقال رئيس من أن حملات التوعية تقود البريطانيين إلى "الخلط بين الاستجابات الطبيعية لصعوبات الحياة واضطرابات الصحة العقلية". هناك أيضا قدر كبير من الشكوى الخاصة بين كبار المصرفيين والمستثمرين. لقد نجا كثير من قادة اليوم من برامج التدريب المهني القاسية التي تضمنت 100 ساعة أسبوعيا والمضايقات القاسية وبيئات العمل الصعبة.
فيما لا يريد أحد أن نرجع إلى كراهية النساء والتنمر في العلن، فإنهم يعترفون بأنهم يجدون شباب اليوم في العشرينيات من العمر مدللين قليلا. عندما عملت مجموعة من محللي بنك جولدمان ساكس عرضا تقديميا يشكون فيه من الإرهاق في ذروة طفرة الخدمات المصرفية الاستثمارية لعام 2021، انقسم الرأي في وول ستريت بوضوح إلى ما إذا كانوا يطرحون شكوى مشروعة أم أنهم "حساسون" ويجب أن يجدوا لأنفسهم مهنة مختلفة.
إذا كانت مثل هذه الشكاوى تبدو مألوفة، فهي كذلك. فقبل 30 عاما، حذرت كتب مثل "النظر في مضادات الاكتئاب"، لكاتبه بيتر كرامر، من أن مضادات الاكتئاب الجديدة آنذاك ستعيد تشكيل الشخصيات البشرية وتؤدي إلى "علم الصيدلة التجميلي" الذي يضخ الأدوية إلى أشخاص ليسوا مرضى حقا. في الواقع، يعزى إلى انتشار استخدام مضادات الاكتئاب وتحسين تغطية الرعاية الصحية العقلية الفضل في الانخفاض الملحوظ في معدلات الانتحار في الولايات المتحدة في التسعينيات، رغم ارتفاع معدلات الوفيات تدريجيا منذ ذلك الحين.
في هذه الأيام، تقول إدارات الموارد البشرية إن الموظفين يطلبون الدعم في وقت مبكر، قبل أن يصبحوا على درجة خطيرة من المرض. لقد جاء كثير من الموظفين الشباب من جامعات تقدم فيها خدمات الصحة العقلية بسهولة ويتوقعون دعما مشابها في العمل.
يظل الاستخدام مرتفعا بالنسبة لابتكارات عصر كوفيد، مثل العلاج الحديث عبر الإنترنت، وتطبيقات الوعي الذهني والتأمل، فضلا عن أيام "العافية" التي تسمح بأخذ إجازة لإعادة شحن الطاقة. تقول شارين جونز، الرئيس المشارك المؤقت لقسم خدمات الأفراد في بنك نيويورك ميلون: "في الماضي، كان الناس يستخدمون الخدمات في الأزمات. أما الآن، فقد أصبح الناس يستخدمونها لإعادة ضبط أنفسهم وصحتهم".
لكن لا يزال كثير من كبار السن غير مرتاحين لمناقشة مشكلات الصحة العقلية، فضلا عن طلب المساعدة. وهذا يضع المسؤولية على عاتق الشركات لتوفير بيئة ترحب بمثل هذه المحادثات. ويعد الانتشار السريع لورش العمل التطوعية للموظفين وبرامج "المستجيب الأول" للصحة العقلية وكذلك الإسعافات الأولية الجسدية خطوات إيجابية.
لكن لن ينجح أي من هذا دون حدوث تغيير ثقافي. اتخذ كل من بنك سيتي جروب وبنك نيويورك ميلون إجراءات هذا الشهر بتعليق المتطلبات الداخلية للأسبوعين الأخيرين من ديسمبر وحث الموظفين على استغلال هذه الفترة لإعادة شحن طاقتهم. وقال روبن فينس، الرئيس التنفيذي لبنك نيويورك ميلون، في مقابلة أجريت معه أخيرا: "هناك إنسانية معينة في السماح للناس بالتأكد من أنهم يركزون على حياتهم، خاصة في الأوقات المهمة من العام".
قد يكره التقليديون المتزمتون هذا، لكن تشجيع رعاية الذات يعد عملا ذكيا في وقت لا تزال فيه الموهبة البشرية هي التكلفة الأكثر أهمية.