رائحة الكتب .. إبحار في إيطاليا القرن الـ 20
يصعب تصنيف مؤلف "رائحة الكتب" (2020) للكاتب والصحافي الإيطالي جيامبييو موغيني، فالكتاب رحلة ماتعة تعرض تفاصيل دقيقة عن الأدب والثقافة الإيطاليين، على امتداد القرن الـ20، بعروض وقراءات في قائمة كتب منتقاة بعناية شديدة لمؤلفين إيطاليين، اختارها الكاتب لأنها تشكل جزءا من مكتبته وأهواء ذاكرته، فضلا عن استجابتها لمعايير خاصة، "اخترت أحيانا كتبا قرأها قلة قليلة من الناس، تركز أحيانا على أشخاص مهمشين، لا يعقل نبذهم"، وفي ذلك تقريع لمعيار نسبة المبيعات، أفضليات الأسبوع أو الشهر، التي أضحت تهمين على سوق النشر، وتسهم في تشكيل الرأي العام الثقافي.
مستهل السيرة الذاتية الفكرية، إن جاز التوصيف، على اعتبار أن الكاتب يقدم للقراء مضامين كتب اشتراها وقرأها، لكنها لم تكن بتعبيره "مجرد كتب ورقية، كتب بنتنا وهدمتنا، كتب قد تغير حياتك. أشياء مقدسة، أجل"، مرافعة قوية - بعنوان "معركة فارس يائس" - من موغيني، القارئ، فهو صاحب 20 ألف كتاب ضمنها ألفا كتاب نادر، والكاتب، فهو مؤلف 40 كتابا، ومشارك في تأسيس صحف كثيرة، وصاحب برامج ثقافية، دفاعا عن الكتاب الورقي ضد "جيش رقمي لم يصمم لاعتقال الأسرى بل التدمير والقتل. جيش دمر صناعة التسجيلات.. دمر التصوير والمصورين، ودور النشر"، فاستنادا إلى حسابات دار مارسيليو للنشر، فقدت سوق الكتب الإيطالية نحو 25 في المائة من زبائنها إلى الأبد.
كل ذلك، لم يثن موغيني عن المغامرة بتحرير كتاب عن "كتب، وكتيبات مميزة، لم أخترها لشهرتها وانتشارها فقط، بل ولخطورتها، ولأن أغلب الناس قد هجروها". كتاب تغطس بتوالي صفحاته في عوالم الأدب والثقافة الإيطاليين، واشتباكهما مع السياسة أحيانا، طوال القرن الـ20، فالكتاب بما جاء فيه من منتخبات كتب مهمة، في الرواية والسياسة والفن والسيرة، بعضها كان محدود التداول، رغم تأثيرها الكبير في صناعة التاريخ الثقافي للبلد.
عن أحوال المجتمع الإيطالي، مطلع القرن الماضي، يطلعنا الكاتب لويجي پيرانديلو، وهو في 36 من عمره، حين كتب رواية "ماتيا باسكال الراحل" (1904)، حيث يختار البطل ماتيا، وهو في طريق العودة إلى صقلية، بعد قراءته خبر العثور على جثة شخص منتحر في مزرعته السابقة، وأن المنتحر هو ماتيا باسكال، استغلال الفرصة بمنح نفسه هوية جديدة، بحثا عن حياة أفضل. سرعان ما تبخرت أمانيه، فقرر العودة إلى بلدته، ليوضح للجميع أنه ما زال على قيد الحياة، لكن لا أحد يتذكره، فأصبح ماتيا باسكال راحلا وهو على قيد الحياة.
أعمال روائية كثيرة حاولت بقصصها وحبكاتها تصوير أوضاع إيطاليا، فكتب ألبرتو مواڤيا، في 18 من العمر، رواية "اللامبالون (1929)، التي طبعت بفضل والده الذي آمن بقدرات ابنه، بعد رفض دور النشر طباعتها. وأبدع جوسيبي فينوليو رائعته "يوم النار" (1963)، إحدى أجمل الروايات الإيطالية عن أعوام الحرب الأهلية (1943-1945). وكانت رواية "كابوت" (1944)؛ ومعناه بالألمانية الحطام والانهيار، للكاتب كورزيو مالاپارته، بليغة في نقل جحيم الحرب العالمية الثانية، واحتلال أوروبا الشرقية، وانهيار الجدار الفاصل بين الحضارة والهمجية.
إلى جانب الأدب حضرت السياسة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، فقدم المؤلف كتبا نجح أصحابها في العودة بالقراء إلى أدق تفاصيل ذاك الزمن، فكتب كارلو روسيلي مناهضا سطوة الماركسية في الثقافة الإيطالية، كتاب "اشتراكية ليبرالية" (1930). وقبله بعامين، ظهر "آلية عمل الفاشية الدكتاتورية" (1928) لجايتانو سالڤيميني، الذي نقرأ في رسالة منه إلى قائد الميليشيا "عليك أن توضح لهم أن تنقية الهواء أمر صحي، لذلك عليهم الاستقرار في منطقة أخرى، أما إذا أصروا على البقاء، فيجب ضربهم بلا مبالغة... ستبلي الشرطة بلاء حسنا في اضطهادهم مع كل تفتيش أسبوعي، ومن الأفضل، وللمصلحة العامة، تنبيه المسؤول إلى أن كل ضرب يجب أن يكون بفن قد يعقبه تشريح للجثة".
واشتبك الكاتب مع كتاب "مخرج الطوارئ" (1951) لإيجنازيو سيلونه الذي يحظى بمكانة خاصة لديه، فالعنوان مجاز للتعبير عن خروج صاحبه من الحزب الشيوعي 1930، وما رافق ذلك من مرارات لازمت صاحبه طوال حياته، لدرجة وصف الكتاب بأنه "نص توثيقي لفترة وجيل كامل". بعد وفاة سيلونه اكتشف باحثان إيطاليان حقيقة هوت برمزية الرجل في الوسط الثقافي، فسيلونه ليس الاسم المستعار الوحيد لسيكوندينو نرانكولي، بل كان له اسم آخر هو سلفستري، استخدمه لتبليغ ضباط الشرطة بما يحدث في أحزاب ومنظمات اليسار الشيوعي. رغم إعجاب موغيني الشديد بسيلونه، لم يتردد في التعليق على الأمر بقوله: "إذا صح تعايش كل من: الكاتب والشاهد والمخبر فعلا في حياة شخص واحد... سيكون أديبا رفيع المستوى ذا سلوك قويم، ويجمع بين خصال "القديس" و"يهودا الخائن" في آن واحد".
عديدة هي المؤلفات التي حظيت بتقريض من الكاتب، مثل "فلسفة في الحرية" (1958) الذي كتبه ديدالوس - اسم مستعار لأومبرتو إيكو- في سن 26 عاما، في قالب يزاوج بين الجدية والظرافة. وتولى فيه الكاتب الشاب سرد قصص فلاسفة الغرب، ممزوجة بكمية هائلة من السخرية. وكتاب "بيضة مطبوخة" (1979) لصاحبة ألدو بوتزي المتلاعب بالصلصات والمقادير وأشياء أخرى ليؤسس كوجيطو خاص، "أخبرني كيف تأكل طعامك؟ وأين تأكله؟ وسأخبرك من أنت؟".
اختيار الكتب يخضع لتسلس زمني، أساسه تعاقب الأحداث في إيطاليا، فاختار الكاتب مثلا مؤلف لوتا كونتنوا "يستمر النضال" (1976) للتأريخ لانتصار جيل الشباب. وذكر بأن رواية داريو فيوري "ستالين يعشق" (1977) شكلت نقطة فاصلة بين ماضي وحاضر الثقافة في إيطاليا، بتسليطها الضوء على ثلاث مراحل متتالية من حياة ستالين، بدءا من سعيه للتفوق السياسي في الحزب الشيوعي البلشفي، واقتراب تدمير قيادة الحزب الأساسية تدميرا شاملا، وانتهاء باندلاع الحرب العالمية الثانية، وانتصاره فيها.
وصف الكاتب شخصية ستالين بأنه "متقد مندفع، وخبير عالم بالضعف الإنساني، وعشيق أحمق، ومنحرف ساذج في آن واحد. سادي، ولكن متحرز في متعته". وتحدث الزعيم الشيوعي بلسان في متن الرواية، موضحا لإحدى عشيقاته الثلاث قائلا: "أنا عنيف، لكنني لست فظا. أزهقت أرواح الكثيرين، لكن أرواحهم أزهقت من دون أن يعانوا".
ثورة الشباب التي اتقدت في "يستمر النضال" خمدت في سيرة روبيرتو فارينا بعنوان "آلان الشاب پاز" (2016) التي تحكي عن انتشار المخدرات بين شباب جيل السبعينيات، فسرعان ما سقط الجميع في وحل المخدرات. "في مرحلة ما، سقطت بذرة الخوف، فنمت منها المخدرات. الخوف مراوغ ومخادع، كان خوفا من المستقبل. الخوف لا ينبثق من العدم، ولهذا قرر شخص ما استغلال ذلك الخوف، فنشر الهرويين في المدن... عد كثير منا أن إدمان الهرويين فعل تحرير ذاتي. كنا على استعداد لشرائه بالنفيس من ممتلكاتنا. كارثة في دمائنا؟ كنا على استعداد لرمي الحياة بأكملها في المرحاض، مقابل خمس دقائق من المتعة الخالصة".
رغم بساطة الفكرة في جوهرها، أي تلخيص الكتب، إلا أن المبدع جيامبييو موغيني نجح، بحذاقته وذكائه، في استثمار معطيات أخرى مثل: قلة الانتشار أو عدم شهرة المؤلف أو سن الكتابة.. ما جعل الكتاب جولة ماتعة، على امتداد قرن من الزمن، في رحاب الأدب والثقافة والفنون بإيطاليا.