الغرب المعاصر .. هل تسول له نفسه الانحدار؟
كانت الثورة الصناعية أحد أهم الأحداث في تاريخ البشرية. على مدى بضعة عقود، أدت الاختراعات التكنولوجية إلى نهوض الناتج الاقتصادي من مستواه المستقر والمنخفض الذي استمر قرونا وارتفاع عدد السكان ومستويات المعيشة ومتوسط العمر المتوقع.
لكن على الرغم من أهميتها الحيوية، ما زال يدور خلاف حول سبب بدء كل هذا ومتى وأين حدث.
إحدى أكثر الحجج إقناعا تأتي من المؤرخ الاقتصادي الأمريكي روبرت ألين، الذي يجادل بأن نجاحات بريطانيا في التجارة في القرنين الـ16 والـ17، دفعت الأجور إلى الارتفاع وتكاليف الطاقة إلى الانخفاض، ما أوجد حوافز قوية لاستبدال الطاقة ورأس المال بالعمالة، وميكنة عمليات التصنيع. تصب حجج أخرى تركيزا أكبر على دور مؤسسات المملكة المتحدة، فيما يجادل بعضها بأن الأفكار المبتكرة ظهرت نتيجة لزيادة التفاعلات بين سكان وكثافة سكانية آخذين في الازدياد.
تعود نظرية أخرى مثيرة للاهتمام للمؤرخ الاقتصادي جويل موكير، الذي يجادل في كتابه المنشور 2016، "ثقافة نمو" بأن التغيير الثقافي الأعم هو الذي وضع الأساس للثورة الصناعية. أيد مفكرون بريطانيون بارزون من بينهم فرانسيس بيكون وإسحاق نيوتن رأيا موجها نحو تقدم العالم، يتمحور حول فكرة أن العلم والتجريب هما المفتاح للارتقاء برفاهية الإنسان.
في حين أن نظرية موكير مقنعة، إلا أنها كانت حتى وقت قريب مجرد نظرية. لكن ورقة بحثية رائعة نشرت الشهر الماضي أجراها أربعة اقتصاديين تضع بعض الأدلة وراء هذه الحجة. حلل الباحثون محتويات 173031 كتابا طبع في إنجلترا بين 1500 و1900، وتتبعوا كيف تغير تواتر المصطلحات المختلفة بمرور الزمن، التي يستخدمونها مؤشرا للموضوعات الثقافية الرائجة حينها.
وجدوا زيادة ملحوظة في استخدام المصطلحات المتعلقة بالتقدم والابتكار ابتداء من أوائل القرن الـ17. وهذا يدعم فكرة أن "التطور الثقافي في العقليات تجاه إمكانات العلم يفسر في جزء منه الثورة الصناعية البريطانية ونهوضها الاقتصادي".
لاستكشاف ما إذا كان هذا ينطبق على الدول الأخرى، عملت على تكييف تحليلهم وتوسيعه ليشمل إسبانيا، التي كانت تتنافس اقتصاديا مع بريطانيا في القرن 17، لكنها تخلفت بعدها. باستخدام بيانات من ملايين الكتب التي رقمنت في جزء من مشروع جوجل نجرام، وجدت أن الزيادة في تداول التقدم في الكتب البريطانية حدثت قبل قرنين تقريبا من الزيادة في الموضوع نفسه في إسبانيا، ما يعكس الاتجاهات في التنمية الاقتصادية للدولتين.
ولا يقتصر الأمر على أن الناس يتحدثون أكثر عن التقدم عندما تمضي دولهم قدما. ففي كلتيهما، تطورت الثقافة قبل أن يتسارع النمو.
إن اكتشاف أن بإمكان اللغة والثقافة أن يلعبا دورين مهمين في تحفيز التنمية الاقتصادية له آثار كبيرة في الغرب اليوم.
وبتطبيق التحليل نفسه في الوقت الحاضر، تظهر صورة مذهلة، فعلى مدى الـ60 عاما الماضية، بدأ الغرب يبتعد عن ثقافة التقدم، متحولا نحو ثقافة الحذر والقلق والنفور من المخاطرة، مع تباطؤ النمو الاقتصادي خلال الفترة نفسها. انخفض تواتر المصطلحات المتعلقة بالتقدم والتحسين والمستقبل بنحو 25 في المائة منذ الستينيات، في حين أن تلك المتعلقة بالتهديدات والمخاطر والمخاوف أصبحت أكثر شيوعا بعدة أضعاف.
وهذا الارتفاع المتزامن في اللغة المرتبطة بالحذر قد لا يكون مصادفة، بل قوة مساوية ومعاكسة ضد النمو والتقدم.
تجادل روكساندرا تسلو، وهي كاتبة من مجتمع متنام من الكتاب المهتمين بالتقدم في العلاقة بين العلوم والاقتصاد والسياسة، بأن الشكوك المتزايدة حول التكنولوجيا وبزوغ شيوع التفكير أن المحصلة صفر (الفائز يكسب على حساب الخاسر) في المجتمع الحديث هي أحد التحديات الأيديولوجية المميزة في عصرنا.
قد يرد بعض الناس بأن إعادة التوازن بين الأولويات من التقدم الدائم إلى الحذر أمر صائب، لكنه قد يكون خطأ كارثيا. وإلى جانب النمو الاقتصادي، جلب لنا الدافع نحو التقدم الطب الحديث، وحياة أطول وأصح، وإمدادات غذائية وفيرة، وانخفاض كبير في الفقر، وطاقة متجددة أكثر وأرخص من ذي قبل. التحديات التي تواجه العالم الحديث ستحل بزيادة التركيز على التقدم، وليس تقليله.
كان عالم ما قبل ثورة الصناعة عالم صراع جماعي واستغلال ومعاناة. وإذا كان لنا أن نتجنب الانتكاس، فعلى دعاة الابتكار والنمو والوفرة أن يتغلبوا على المتشائمين.