نظرة أممية قاتمة للاقتصاد العالمي
"آفاق نمو الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط لا تزال ضعيفة"
كريستالينا جورجيفا، رئيسة صندوق النقد الدولي
الأمم المتحدة ليست متفائلة بآفاق الاقتصاد العالمي في 2024. وعدم التفاؤل ليس حكرا على المنظمة الدولية، بل يشمل عددا من الجهات التي تطلق مؤشراتها وتوقعاتها، ولا سيما في المراحل المفصلية كهذه التي يمر العالم بها. وهي مفصلية، لأنها ستشهد تشكل الوضع الاقتصادي على المدى المتوسط على الأقل، في ظل عوامل خطيرة مر "ويمر" فيها الاقتصاد الدولي عموما. ليس واضحا مدى جلاء الأمور في العام الجديد، لأن تبعات المصاعب الاقتصادية تنتقل تلقائيا من عام إلى آخر، بل من مرحلة إلى أخرى أيضا. لكن بلا شك هنا مؤشرات ليست قاتمة تماما في الميدان الاقتصادي، إلا أنها لا تضمن صورة مشرقة "على الأقل في الوقت الراهن" لشكل الاقتصاد العالمي حتى منتصف العقد الحالي على الأقل.
العوامل كثيرة تلك التي تضع التفاؤل جانبا، وهي مؤثرات ليس من السهل التخلص منها في فترة زمنية قصيرة، في مقدمتها بالطبع الصراعات الجارية التي أربكت المشهد الاقتصادي كما هو الحال بالمشهد الإنساني والسياسي. وهناك عامل مهم يتعلق بالفائدة التي لا تزال مرتفعة حول العالم، رغم أن أغلب البنوك المركزية الرئيسة، جمدت رفعها، على أمل البدء بخفضها في 2024. ويأتي العامل المهم أيضا المتعلق بتباطؤ التجارة العالمية، وعدم حدوث الاستقرار المطلوب لسلاسل التوريد، رغم أنها تحسنت بمعدلات كبيرة في الآونة الأخيرة. في العام الماضي، شهد العالم سلسلة من الكوارث الطبيعية أسهمت في إضافة مزيد من الإرباك للمشهد العام، فضلا عن الخلافات التي ترقى إلى مستوى الصراعات الجيوسياسية في هذه الساحة أو تلك. فحتى تلك الصراعات التي يمكن توصيفها بالباردة، يمكن أن تولد شرارة مواجهات ساخنة في أي لحظة.
التقرير الاقتصادي الصادر عن الأمم المتحدة، يضع النمو العالمي المتوقع للعام الحالي عند 2.4 في المائة، منخفضا من 2.7 في المائة في العام الماضي. هذا أقل التوقعات للنمو بين المؤسسات الدولية المعروفة، بما فيها صندوق النقد الدولي. لكن حتى الفروق في النسب ليست كبيرة، فالنمو المأمول لن يتحقق على الأقل في العام الجديد، ولن يصل إلى 3 في المائة، أي إلى الحد الذي كان عليه النمو قبل جائحة كورونا. وهذه الأخيرة، نقلت "كما هو معروف" أعباءها من عام إلى آخر، لأنها رفعت من حجم الإنفاق العام، الذي بدوره زاد من موجات الاقتراض الحكومية حول العالم، حيث بلغت الديون السيادية في بعض الدول المتقدمة أكثر من حجم ناتجها المحلي الإجمالي، ووصلت في اليابان "مثلا" إلى ضعف ناتجها.
كل نسب النمو المتوقعة من الجهات الدولية، بما فيها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لا تتجاوز الحدود التي يحتاجها الاقتصاد العالمي لتحقيق قفزات نوعية، وللعودة إلى حراكه الذي سبق 2020. كان التيسير النقدي "الكمي" في العقد الماضي، السمة البارزة له، ما جعل النمو يرتفع إلى مستويات كبيرة حتى في الدول التي كانت معروفة بنموها المتواضع. لكن مع التشديد النقدي الذي أطلق من أجل مواجهة الموجة التضخمية، أثار الشكوك على صعيد النمو حتى في الدول التي كانت المحرك الرئيس له على مدى أعوام طويلة، بما في ذلك الصين والهند. صحيح أن النمو في هاتين الدولتين سيكون أكبر من مستواه في بقية الدول، لكن الصحيح أيضا أنه لن يصل بأي شكل من الأشكال إلى ما كان عليه سابقا.
لنترك تقديرات النمو جانبا، فلا فروق لافتة بينها. الوضع الاقتصادي العالمي في العام الجديد، لا يمكن أن يشهد التحسن المأمول، إلا إذا أقدمت البنوك المركزية على خفض تكاليف الاقتراض ولو بنسب بسيطة. علما أنه لا يوجد أمل في الوقت الراهن لتراجع حدة الصراعات، ولا حتى لتفاهمات تقود لانفراج ما. والنقطة المضيئة الآن، هي أن العالم تجنب بالفعل الركود في العام الماضي، وإن ساد التباطؤ المشهد العام. هذا يعني أنه بالإمكان ضمان مستويات من النمو "بصرف النظر عن معدلاتها" في العام الجديد، خصوصا مع نجاح بعض الاقتصادات المؤثرة دوليا في التغلب على التضخم لديها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، مع ضرورة الإشارة إلى التأثيرات السلبية للفائدة الأمريكية المرتفعة على الاقتصادين المحلي والعالمي في آن معا.
هناك اتفاق واضح بين الجهات المعنية بالمؤشرات الاقتصادية حول العالم، على أن مرحلة الخطر لم تمر بعد، ما يعني أن المشكلات التي خبت بعض الشيء، يمكن أن تعود للظهور عند أول إخفاق اقتصادي. هذا يعني أن العام الجديد ليس إلا فترة زمنية حساسة، لسبب واحد، وهو أنها مرحلة مفصلية ليس باتجاه الازدهار والنمو القوي، بل من ناحية التعافي الذي يحتاج أيضا إلى مزيد من الوقت للتخلص من الأعباء المتراكمة. فالتفاؤل المطلوب ربما سيكون مناسبا في الربع الثاني من العام الحالي، والحذر يبدو أفضل وسيلة في الوقت الراهن لضمان قفزات نوعية للاقتصاد العالمي ككل.