جدولة إرسال البريد .. مرونة أم وهم؟
كما هي حال عديد من الباحثين الشباب، تجد ستيفانا جوليا موس نفسها أحيانا ترسل بريدا إلكترونيا في وقت متأخر من الليل. وزملاؤها لا يعلمون بذلك، فهي تستخدم خاصية جدولة الإرسال حيث تصل الرسائل المكتوبة في الساعة 11 مساء صباح اليوم التالي.
بالنسبة إلى موس وعدد من أصدقائها، الذين يعملون بعد انتهاء الدوام لأن رعاية الأطفال تتقاطع مع دوام الساعة التاسعة إلى الخامسة، فإن هذه الخاصية لا تقدر بثمن. تقول: "نظرا إلى المتطلبات التي تواجهها كثير من الأساتذة الشابات، ثمة فترات معينة من يومنا لا يمكننا فيها الرد على البريد في حين يستطيع نظراؤنا ذلك". ونظرا إلى أن الحدود بين العمل ووقت الفراغ أصبحت ضبابية، فإن موس عاملة من بين عاملين كثر يستخدمون حيلا تمكنهم من العمل بمرونة، مع حماية وقت فراغ زملائهم واحترام ساعات العمل الموحدة.
لكن حتى أكبر المعجبين بزر "الإرسال لاحقا" يعترفون بأنه حل غير مثالي. يقول المعجبون به، إنه يوضح أن العمل بعد ساعاته المحددة عمل اختياري، وليس إجباريا على الآخرين. وهو يعني التعامل مع مهمة ما دون الاضطرار إلى عملهم أو زملائهم ساعات إضافية، ويمنح وقتا لمراجعة الأخطاء غير الملحوظة. يشارك مناصرو الزر نصائح مثل جدولة البريد بضع دقائق بعد الساعة، وليس خيار الساعة الثامنة صباحا التلقائي، حتى لا يستشف مستلموه الجدولة.
يقول أحد المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام: "إن الجدولة مفيدة إذا أتممت عملا في وقت غريب وأريد أن تصل الرسالة إلى صندوق الوارد لشخص ما في وقت أقل غرابة. إذا كنت تقضي ساعات طويلة في التفكير، فلن يعلم الآخرون". تنبعث متعة بسيطة من تصفية صندوق وارد فوضوي في وقت فراغ في أمسية ما، ثم الوصول إلى العمل في اليوم التالي مع وصول موجة من الردود المنمقة والزملاء.
يقول دان كيبل، الأستاذ في كلية لندن للأعمال، إن الشعبية المتزايدة للجدولة هي نتيجة لجائحة كوفيد. فقد وجد الناس أنفسهم يعملون لساعات غير منتظمة من المنزل، لكنهم أرادوا استبقاء فكرة أن ساعات العمل المحددة لا تزال مهمة. وهنا تغيير عما كان عليه الحال قبل 2020. إذ وجدت شركة ريسيرتش كيبل في 2009 أن أشخاصا كثر يفضلون الجدولة في الاتجاه المعاكس، بتحديد وصول المراسلات بعد السابعة مساء، مثلا، كي يبدو كأنهم يعملون حتى وقت متأخر، وهم لا يعملون.
يقول كيبل: "لقد رأى الرؤساء ساعات العمل الطويلة على أنها مؤشر على الالتزام، لذلك كان الموظفون يتظاهرون بأنهم يعملون. يستخدم هذا الأسلوب الآن بالطريقة المعاكسة، حيث يتظاهر الناس بالعمل خلال ساعات العمل، وهم لا يعملون". لا يرى بعض الناس فكرة إخفاء ساعات العمل فكرة سديدة.
لا تزال بوني ديلبر، مديرة التوظيف في منصة زابيير للقوى العاملة، تجدول المراسلات لحين عودة الزملاء من العطلة أو الإجازة المرضية. لكنها قررت تقليص مقدار استخدامها لهذه الخاصية لأنها تعتقد أنها تصور صورة زائفة عن كيفية عملنا وتوقيته.
وتقول: "بدلا من إخفاء وقت عملنا عن الآخرين، علينا أن نعتاد على ألا نتوقع ردودا فورية. وهذا يعني احترام حقيقة أن الناس يريدون العمل في الوقت والكيفية التي يرون أنهما منطقيان، وإجراء محادثات حول كيف يبدو ذلك".
وفي استطلاع أجرته مؤسسة يوروفاوند العام الماضي، أفاد أكثر من 80 في المائة من العاملين بأنهم تلقوا اتصالات متعلقة بالعمل خارج ساعات عملهم المنصوصة في العقد، وقالت الأغلبية العظمى إنها ردت عليها. يقول مات كريج، مسؤول السياسات في مجلس نقابات العمال، إن الجدولة يمكن أن تساعد على وقف "تكثيف العمل" عن طريق تقليل عدد رسائل البريد. لكنه يخشى أن يؤدي ذلك إلى إخفاء مشكلات أكبر تتعلق بعبء العمل. "لا يزال الناس يعملون في الليل".
فبدلا من "وضع العبء على الفرد للتعامل مع ثقافة المؤسسة"، يقول كريج إنه يجب على أصحاب العمل التأكد من إمكانية إكمال المهام بشكل معقول خلال ساعات العمل. ويمكنهم أيضا الحد من توقعاتهم للتواصل بعد حلول الظلام.
لقد اتخذ البعض إجراءات بالفعل، ففي 2012، ذكر أن شركة فولكس فاجن اتخذت خطوات حيث تم حجز بعض الرسائل المرسلة بعد ساعات العمل على الخوادم حتى اليوم التالي. وفي الآونة الأخيرة، شجعت قوانين جديدة تتعلق بالحق في قطع الاتصال بالعمل على ممارسات مشابهة. وفي فرنسا، ينبغي للنقابات وأصحاب الشغل العمل معا على سياسات تحمي وقت فراغ الموظفين، وقد اختار البعض الجدولة على مستوى المؤسسة أو تحذيرات من إرسال مراسلات بعد العمل، وفقا لمجلس نقابات العمال.
يؤكد كريج أن هذا الإجراء ينبغي ألا "يناسب الجميع بالكيفية نفسها"، بل ينبغي أن يعتمد على المحادثات المستمرة مع الموظفين حول احتياجاتهم.
في أوساط الطلاب والزملاء، ترى موس الآن تحسنا حول توقعات الاستجابة للرسائل، ومديرين أسعد لقبول تلك التوقعات. فالجدولة ليست الطريقة الوحيدة لدعم ذلك، لكنها تساعد. وتقول: "أنا وأصدقائي لا نستخدمها كثيرا لتصوير وهم أننا نعمل خلال ساعات العمل، بل لنحترم أولئك الذين نعمل معهم".