فن الإتيكيت .. صراع العولمة والثقافة
كثيرا ما يتم اعتماد التصرفات الظاهرة معيارا للحكم على الآخرين، فقواعد الإتيكيت أضحت، في نظر كثيرين، محددا جوهريا لتصنيف الأشخاص، وتشكيل انطباع أولي، سريع ومبكر، عن طبيعة شخصيتهم. والإتيكيت كلمة أعجمية، تفيد في دلالتها "فن الذوق العام" أو "أصول الآداب واللياقة" أو "السلوك بالغ التهذيب". وعرفته الموسوعة البريطانية بـ "السلوك الذي يساعد على التلاؤم والانسجام بين الناس بعضهم بعضا من جهة، ومع البيئة التي يعيشون فيها من جهة أخرى". باختصار، إنه فن الخصال الحميدة وضوابط السلوك الاجتماعي المهذب.
تمتزج الكلمة في أذهان البعض مع كلمات أخرى لدرجة الترادف، بيد أنها ليست كذلك، فالإتيكيت غير الأخلاق، التي تعني الآداب التي تدل على الطابع الشخصي للإنسان، بينما تتصل الأولى بالسلوكيات الخارجية فقط. وتختلف عن البروتوكول، أو المراسيم باللسان العربي، من حيث القوة الإلزامية، فحتى إن كانتا وجهين لعملة واحدة تقريبا، تتفرد بطابع الإلزام والتقيد بأصول التعامل وتنظيم السلوك الاجتماعي والمهني في الشؤون الرسمية، بدءا من كيفيات تنظيم أي حدث أو مناسبة وانتهاء بالتفاصيل الخاصة بالتعامل مع الضيوف والحاضرين.
تتعدد الروايات بشأن أصول الكلمة، فقول يعدها يونانية "ستيكوس"، وتعني الطبقات أو الفئات الاجتماعية، وقول ثاني ينسبها إلى اللغة الألمانية "ستيشن"، أي الطابع أو السمة البارزة. وثالث يعد أن جذرها "دو تيكيت"، وهي تلك التذكرة التي تلصق على الطرد البريدي، وتشرح محتواه وكيفية التعامل معه. ورأى آخرون أن أصلها فرنسي، فمفردة "إتيكيت"، في لغة موليير، توحي إلى البطاقة حيث يتحدد اسم الشخص المدعو وطبيعة الاحتفال وبرنامج الحفلة.
اقترنت بداية الإتيكيت بالأوساط الأرستقراطية في القارة الأوروبية، رغم أن الحقيقة خلاف ذلك، فهذا الفن قديم قدم الحضارة الإنسانية، خاصة داخل القصور الملكية حيث تحرص الأسر الحاكمة على فرض قواعد تحدد تقنيات التصرف، أشبه ما تكون بأنظمة تضبط السلوك والعادات بين مختلف الفئات داخل البلاط. فكتب التاريخ تتحدث عن قواعد الذوق لدى المصريين القدامى وفي بلاد الرافدين، كما ظهر لاحقا في الحضارتين اليونانية والرومانية. ووضع العرب مصنفات كثيرة في هذا الباب، وبالأخص في العصر العباسي، فكتب الجاحظ مؤلف "التاج في أخلاق الملوك"، وعند القلقشندي كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء".
أما في أوروبا الحديثة، فلم تبدأ قواعد الإتيكيت في التشكل في فرنسا، إلا في النصف الثاني من القرن الـ17، مع حكم الملك لويس الـ14، واقترنت نشأتها بحادثة طريفة، للبستاني الذي يرعى حديقة الملك، الذي امتعض من مشي ضيوف الملك بطريقة عشوائية، على الأعشاب والزهور في حديقة قصر فرساي، دون أن يمتلك السلطة ولا القدرة على منع هؤلاء النبلاء من فعل يؤثر بشكل سلبي في عمله. فاهتدى إلى ابتكار لافتات باسم "الإتيكيت" مسارات المشي وأماكن الدخول والخروج، ثم ما لبث الأمر أن تطور فصدر مرسوم ملكي ينظم شتى مظاهر الحياة داخل القصر.
سرعان ما انتشرت الفكرة في الأوساط الباريسية، فاعتنت الطبقة الأرستقراطية بفن الإتيكيت مؤسسة لقائمة من تقاليد المرتبطة بالبرجوازية الفرنسية. تدريجيا، توسع نطاق هذه التقاليد ليسود في أوساط باقي الأرستقراطيات الأوروبية، من بريطانيا حتى روسيا مرورا بإيطاليا والنمسا. تخلل شيوع فكرة الإتيكيت علمية الزيادة والنقصان، حسب ما تقتضيه الثقافة المحلية لهذا البلد أو ذاك، ما حتم عقد مؤتمر لتوحيد لغة الإتيكيت والبروتوكول، فكان أول تدوين لهذه اللغة العالمية عام 1815 في مدينة فيينا في النمسا. وأعقبته مؤتمرات أخرى، كان آخرها عام 1963، لتسهيل وحدة هذه اللغة، ولا سميا في الشق المتعلق بالعمل الدبلوماسي والقنصلي، لضمان استقرار المجتمع الدولي.
لكن المثير للاهتمام أن فن الإتيكيت مهما بلغ من الوحدة والانسجام، يبقى أسيرة العادات والتقاليد السائدة في المجتمعات فحتى طريقة مسك السكين والشوكة أثناء الأكل، التي تردد عند كل تعريف مخل بالموضوع، ليست محل إجماع بين الشعوب في مختلف الحضارات، فما أكثر الشعوب التي تفضل الأكل بأصابع اليد بدل الأدوات الحديدية، ويستخدم آخرون في مناطق عدة بالقارة الآسيوية العيدان الخشبية عند تناول الطعام. وهكذا دواليك من الاستثناءات التي تؤكد أن العولمة مهما حاولت تنميط الإنسان، تصر الثقافة على تسجيل التفرد والاستثناء، فإذا كانت المصافحة باليد أهذب الأساليب في التحية لدى شعوب العالم، فإنها حتما ليست كذلك في روسيا، فالمصافحة هناك لا تتم إلا داخل البيوت والغرف، وليس على عتبات الأبواب حيث تعيش روح المنزل، حسب المعتقد الشعبي الروسي، ما يجعل التحية هناك فأل سوء. أما في أستراليا، فإلقاء السكان الأصليين التحية، على بعضهم بعضا، يكون بإخراج ألسنتهم، وذلك تعبيرا منهم على بالغ الاحترام والتوقير. في إيطاليا، وعند دخول المطاعم، توضح قاعدة "النساء أولا" الشهيرة، حيث يكون الرجل هو من يلج المكان، ليكون أول من يتحدث مع النادل بدلا من المرأة. وفي معظم الثقافات يبادل أصحابها كؤوس المشروبات بيد واحدة، إلا في كوريا الجنوبية التي ترى في ذلك نوعا من الوقاحة، فالمشروبات لدى الكوريين تمسك وتتناول باستخدام اليدين معا تعبيرا عن الامتنان. وفي الصين، يعد التجشؤ بصوت عال بعد تناول الطعام، علامة تقدير وإعجاب بالوجبة المقدمة. ويبقى مسك عيدان الطعام وتوجيهها مباشرة إلى وجه شخص، أكبر إهانة يمكن تلقيها على مائدة الطعام.
يبقى الشعب اليابان من أكثر الشعوب تمردا على عولمة الإتيكيت، فحضارة الساموراي تحتفظ لنفسها بكثير من الخصوصية، فالمدعو إلى حفلة الزفاف اليابانية ملزم بإحضار ظرف محكم الإغلاق، تختلف قيمته بحسب صلة القرابة مع العروسين، وتقضي القواعد بأن يكون رقم المبلغ فرديا وليس زوجيا، فالرقم الزوجي، وفق الإتيكيت الياباني، إشارة إلى هشاشة الروابط بين الزوجين.
مهما حاولت العولمة تنميط الذوق العام في العالم، وقبول السلوك الاجتماعي في أنماط جاهزة، فحتما ستبوء مساعيها بالفشل لأن الخصوصية والتفرد سمة ملازمة للإنسان، منذ فجر الحضارة على الأرض، وأي محاولة لإلغائها لا تعدو أن تكون بداية نهاية التجربة الإنسانية على هذا الكوكب.