ضعف الإنتاجية وتآكل الأجور
تعد مشكلة وأزمة البطالة من أخطر الأمراض الاقتصادية والاجتماعية على الإطلاق، فالبطالة تعني أولا افتقاد مصدر دخل يضمن مواجهة متطلبات الحياة من مسكن وملبس وغذاء، والتعطل يعني من ناحية أخرى افتقاد الأمل في المستقبل والثقة في المجتمع، ما ينعكس في زيادة السلبية السياسية والانخراط في أنشطة متطرفة خارج الشرعية وتكون مخالفة للقوانين واللوائح والأنظمة.. وأن مشكلة البطالة أصبحت إحدى حقائق الواقع المعيش في كثير من دول العالم في الوقت الراهن، ومن أخطر المشكلات التي تؤرق بال كل مهتم بالشأن الاقتصادي، فلا تكاد تخلو أي وسيلة من وسائل الإعلام المكتوب والمرئي من طرح هذا الموضوع، ولا يخلو أي خطاب سياسي أو منتدى فكري من التصدي لها. كما لا توجد أي أسرة تعيش بعيدة كل البعد عن هذه المشكلة. وليس من قبيل المبالغة القول إن علاج هذه القضية أصبح هو المقياس الحقيقي لنجاح الإصلاح الاقتصادي في أي دولة، وتعد ظاهرة البطالة من أهم الاختلالات الهيكلية في معظم الاقتصادات، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. ومنبع الأهمية لا يكمن فقط في تزايد أعداد المتعطلين عن العمل، بل إن ظاهرة البطالة تعمل على حرمان الفرد ذاته وحقه في مستوى مقبول من المعيشة، خاصة في فترة الشباب وهي أخصب مراحل العمر، ويترتب على ذلك نتائج اجتماعية وسياسية خطيرة، ولا يخفى الارتباط بين ظاهرة البطالة ومعدلات نمو الجريمة وأعمال العنف.
وهنا نشير إلى تقرير منظمة العمل الدولية بعنوان "العمالة والتوقعات الاجتماعية في العالم.. اتجاهات 2024"، الذي صدر، وقد انتهى إلى أن معدل البطالة وفجوة الوظائف -أي عدد الأشخاص العاطلين عن العمل الذين يسعون للعثور على وظيفة- قد انخفض إلى أقل من حالته قبل الوباء، حيث بلغ معدل البطالة العالمي 5.1 في المائة لعام 2023، وهو تحسن ضعيف عن 2022 عندما بلغ 5.3 في المائة، ويتوقع التقرير عودة الاتجاه نحو معدلات ما قبل الوباء، حيث يرتفع معدل البطالة العالمي إلى 5.2 في المائة خلال 2024، كما أن عدد العاطلين عن العمل الذي سيرتفع بمقدار مليوني شخص.
ونلاحظ أن التقرير حمل كثيرا من المعلومات التي تستحق مناقشة مستفيضة، فمن بين تلك المعلومات توقع أن مكاسب الوظائف في الدول ذات الدخل المنخفض والدول ذات الدخل المتوسط الأدنى ستظل قوية، وفي مقابل ذلك، فإن اتجاه نمو التوظيف سيكون سلبيا في 2024 بالنسبة للبلدان ذات الدخل المرتفع، وهذا يعني أنه كلما ارتفع دخل الدولة انخفض مؤشر تحسن الوظائف، وزادت معدلات البطالة، فالدولة الأقل دخلا أكثر توظيفا من الدول الأعلى دخلا. لقد تم ربط هذه المعلومة المهمة بمسألة النمو الاقتصادي، حيث إن النمو في الدول الأعلى دخلا أقل من الدول الأقل دخلا.
من القضايا اللافتة تلك المخاوف بشأن نقص العمالة والمهارات في الاقتصادات المتقدمة وبعض الاقتصادات الناشئة، كما أن القطاعات التي تضم عمالا أساسيين كالرعاية والنقل وأعمال البيع بالتجزئة تجد صعوبات في جذب الناس للعمل فيها، وهناك نقص مستمر في قطاعات أخرى مثل التصنيع والبناء وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهذا النقص يعود لظروف العمل السيئة في هذه القطاعات وعدم قدرة أصحاب العمل في هذه القطاعات على تقديم أجور أعلى، ولأن العمال يعانون الافتقار إلى السكن ميسور التكلفة.
وعليه، فإن هذه الإشكاليات معا تعود إلى تشديد سياسات الاقتصاد الكلي، ولهذا قد تستمر لفترة مقبلة. إذن هناك فجوة في التوظيف، وهناك عمال لا يرغبون في الوظائف لتناقص الأجور، ولارتفاع تكلفة السكن، وهذه القضايا (نقص الأجور وتكلفة السكن) تعود إلى تشديد السياسات الاقتصادية، ولا يوجد في الأفق دليل على تخفيف هذه السياسات نظرا لارتفاع التضخم، ولأن رفع الأجور سيقود إلى عودة دورة التضخم للارتفاع.
وفي هذا السياق، فمن اللافت أن متوسط ساعات العمل أقل من مستويات ما قبل الجائحة في 2019، ما يؤثر في إجمالي مدخلات العمالة المتاحة، ويسبب اختلالات في سوق العمل، خاصة في القطاعات الرئيسة في الاقتصادات المتقدمة وبعض الاقتصادات الناشئة، فهناك مخاوف تتزايد من أن تكون اختلالات سوق العمل هذه ذات طبيعة هيكلية وليست دورية، وأن هذه العبارة الواردة تشي بكثير بشأن مشكلة سوق العمل الحالية، فالمسألة ليست مجرد تشديد سياسات اقتصادية، بل هي تغييرات هيكلية في سوق العمل، وفي هذا يشير التقرير إلى أنه على الرغم من عودة الناس إلى سوق العمل، إلا أنهم لا يرغبون في العمل بعدد الساعات نفسها التي كانوا يعملون بها قبل الوباء. لقد قل حماس الناس للعمل بشكل واضح، ومع ما يصاحب ذلك من انخفاض الأجور أو تآكلها كما سيتضح، وفي جميع البلدان ومن جميع مستويات الدخل. ومن هنا، فإن هذه التغيرات تقود إلى استمرار انخفاض الإنتاجية بشكل عام، فالمسألة تؤكد أن التغيرات هيكلية وليست مرحلية، أضف إلى هذا أن رغبة الناس في العمل قد انخفضت، كما أن القطاعات التي تتطلب حضورا مستمرا وجهدا كبيرا كالرعاية والنقل وأعمال البيع بالتجزئة، فهناك نقص حاد في العمالة في بعض القطاعات - كثيفة الاتصال.
وتعليقا على النقاط السابقة، فإن هذا الاتجاه نحو تناقص ساعات العمل يرتبط جزئيا بالمشكلات الصحية المستمرة طويلة المدى التي تراكمت على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. وقد زادت أعداد الأيام المرضية بشكل كبير عن مستويات ما قبل الوباء، ما يشير إلى استمرار آثار فيروس كورونا على صحة الناس، كما أن حدوث زيادة في حالات العمل بدوام جزئي مؤشر إضافي على انخفاض متوسط ساعات العمل، حيث إن الموظفين بدوام جزئي في الأغلب ما يجدون صعوبة في العودة إلى وظيفة بدوام كامل.
ونلاحظ أن هذه التغيرات الهيكلية أثرت في الإنتاجية وتعود إلى نمو إنتاجية العمل الإجمالية سريعا إلى ذات وتيرة منخفضة على الرغم من التسارع الواضح في التقدم التكنولوجي، خاصة التقدم في مجال التكنولوجيات الرقمية، فلا يبدو أن ارتفاع الاستثمار في عديد من الدول المتقدمة وبعض الدول النامية قد أدى إلى رفع نمو الإنتاجية، وفي الواقع، هناك دلائل تشير إلى أن طبيعة التكنولوجيا تعمل على توسيع الفوارق بدلا من إضعافها، على الصعيدين الوطني والعالمي.
من اللافت للانتباه أيضا أن الوضع بالنسبة للشباب، فعلى الرغم من زيادة مشاركتهم في القوى العاملة، إلا أن نسبة كبيرة منهم الذين تسربوا من سوق العمل لا يتابعون أي شكل من أشكال التدريب وما زالوا يواجهون عقبات في العودة إلى العمل. ولا يزال معدل الأشخاص غير الملتحقين بالتدريب أو التعليم أو التوظيف مرتفعا عبر مستويات الدخل خاصة بين الشابات، ما يسبب تحديات أمام ارتباط الأفراد بسوق العمل على المدى الطويل.
وأخيرا، فإنه في هذا السياق، ومن خلال المعطيات المتوافرة لا بد من بعث رسالة مهمة بضرورة تعزيز النمو الاقتصادي، ولكن يجب أن يكون النمو الاقتصادي جيدا بدرجة تزيد من فرص العمل، وتجعل ظروفه أفضل، ويجعل مجتمعاتنا أكثر مرونة، ومستقبلنا مستداما ومزدهرا دون معاناة، والأزمات الاقتصادية تنموية مستمرة أو حتى مؤقتة.