«حبل الروح» .. ذاكرة متضررة تستعيد قصص الأدب الغرائبي
تبدو غريبة فكرة ضآلة الفارق بين الماضي والأحلام، لكن اللعب مع هذه الفكرة يبدو شيقا، بعد أن دهمت الكاتب النمساوي ليو بيروتس، وغرسها في روايته، ليوصف هذا الروائي بأنه أحد أعظم كتاب الأدب الغرائبي في عصره، وفقا للكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي بورخيس.
في رواية "حبل الروح"، يتعرض نجمها لغيبوبة تفقده الذاكرة، وفي ذاكرته المتضررة نغوص في الخيال الغامض والغريب، عبر ترجمة أدبية مرموقة، نقلها عن الألمانية أحمد الزناتي، وصدرت بنسختها العربية عن دار منشورات حياة.
حينما نصب إبداع بيروتس
بيروتس روائي من الطراز الرفيع، أصدر روايته الأولى "الرصاصة الثالثة" عام 1915، قبل أن يصدر روايته "حبل الروح" أو "ثلج القديس بطرس" عام 1933، وهي رواية رمزية تسعى إلى تسليط الضوء على خطورة الموجة الفاشية التي التهمت القارة الأوروبية، ما أدى إلى حظر الرواية من الحكومة النازية.
اللافت في مسيرة بيروتس، أنه حصل على الجنسية الفلسطينية عام 1940، وبعد إعلان قيام الكيان الإسرائيلي، شعر بأن سنوات شقائه وبؤسه الحقيقية قد بدأت، فقد كره الدولة العنصرية الوليدة، رغم انتشار أعماله في أوروبا، حتى بعد تبني بورخيس فكرة ترجمة رواياته إلى الإسبانية في أمريكا الجنوبية، نضب إبداعه الأدبي.
ترى ماذا حدث مع بيروتس؟ يقول المترجم أحمد الزناتي، في مقدمته للرواية، إن الباعث النفسي كان قويا، إذ وجد بيروتس داخل "إسرائيل" الروح القومية المعادية للآخرين، وهي الروح نفسها التي حاربها أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، ووجد أن السياسة الفاشية التي مورست ضد اليهود إبان الحكم النازي، كانت تمارس وبصورة سافرة مقيتة ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
عد بيروتس مؤسس الواقعية السحرية في ثوبها الشرق أوروبي، وقال عنه الأديب النمساوي روبرت موزيل، إنه ابتكر جنسا أدبيا يخصه وحده، وأشاد بأدبه روائيون كبار، ورغم ذلك بقي الكاتب التشيكي/ النمساوي بيروتس خارج دائرة الأدب العالمي لفترة طويلة بعد وفاته.
يسبح في الفراغ
رواية مشوقة ومليئة بالسخرية والفكاهة من العالم القديم، يتناول حادث شارع وضع طبيبا في المستشفى لمدة خمسة أسابيع، كما يقول أطباؤه، كان يظنها مجرد خمسة أيام، استيقظ من غيبوبة، واليوم يتعافى المخ بعد أن صدمته سيارة، في حين لديه ذكريات مثيرة للقلق، غامضة ومريبة.
لا يميل بطل الرواية إلى الأمور الغيبية لتفسير الحوادث البسيطة، فهو لا يعير الأشياء وزنا أكثر مما تستحق، متمسك بالحقائق المادية، لكنه بعد الحادث كان شيئا بلا اسم، مخلوقا بلا هوية، لا يعرف شيئا عن مصطلحات الماضي والمستقبل، كان شعوره عبارة عن شعور بالوعي المسربل بالغموض، الممزوج بفقدان الوعي التام، ربما كان من الأسهل أن يقول بأنه كان يسبح في الفراغ، إلا أن هذه الكلمات أيضا لا تنبئ بشيء، من كلامه نقتبس "كل ما كنت أعرفه أن مخلوقا ما كان موجودا، لكني لم أكن أعرف أن هذا المخلوق هو أنا"، في وصف ذكي يستهل به رواية تعتمد على ذاكرة تكاد أن تتلاشى.
ثري وسعيد في أحلامه
عشية اندلاع ثورة أكتوبر (البلشفية)، يحدثنا عن الأمير براكاساتين، الذي راهن في إحدى الليالي على ما كان يملكه، حيث كان يقامر ضد ثلاثة شبان من أبناء رجال الصناعة وملاك الأراضي، وابتسم له الحظ لأول مرة في حياته، فربح أكثر من 70 ألف روبل، وفي اليوم التالي وقعت الطامة الكبرى باندلاع الثورة، وصودرت حينها أموال الشبان الثلاثة، وانتهى بهم المطاف إلى مجرد مهاجرين يكافحون يوميا لكسب قوت يومهم، وكان الأمير يكتب لهم رسالة شهرية في غاية التهذيب، يذكرهم فيها بسداد ديونهم، ويسألهم عما إذا كانوا بالفعل في وضع يسمح لهم بالسداد، أحدهم يعمل نجارا في يوغسلافيا، والثاني يدرس اللغات في لندن، والثالث يبيع الصحف في برلين.
يصف الكاتب حال هذا الأمير بالسعادة، سعيد يعيش في حلمه، يعني أن ثروته في مأمن أكثر من أي شخص آخر، فما يملكه المرء في أحلامه، لا يقوى أعداء الدنيا على انتزاعه منه ولو اجتمعوا، وحدها يقظتك تسلبك ما تملك، لكن من تراه يتصف بالقسوة لدرجة إيقاظه من حلمه؟
سنابل بيضاء
في رواية "حبل الروح"، يتحدث البارون فون مالشين -إحدى شخصيات الرواية- عن خبز مصنوع من دقيق مقدس، مستوحيا هذا الوصف من الكتب الدينية، ومنها كتب الفرس المقدسة، وفيها يعاد الكلام مرارا وتكرارا عن سنابل ذرة لازمة للطهارة، وثمة مسرحية رومانية قديمة غامضة عن الحبوب البيضاء أو الشاحبة التي تستعمل لهداية البشر، نبات أشبه بالحبوب، لكن حبوبه بيضاء، نوع من محاصيل الحقل التي اختفت زراعتها اليوم، وربما حلت محلها محاصيل أخرى، فما المحصول الذي يحمل سنابل بيضاء ونساه البشر؟
لم يكن الثلج الأبيض نوعا من الحبوب، وإنما كان آفة زراعية، فطرا طفيليا يغزو أعواد الذرة ويتغذى على مادتها، التي تصل بآكلها إلى النشوة.
من بين أكثر من 100 نوع من الفطريات، وجد البارون أن هناك فطرا أشير إليه في القرون الماضية، واختلفوا في تسميته بحسب المنطقة التي ظهر فيها، ففي إسبانيا كان يسمى "ضفيرة ماريا المجدلية"، وفي منطقة الألزاس يسمى "حبل الروح المسكين"، وصنفها العالم آدم فون كريمونا، في كتاب الأطباء، بـ"حبة الرحمة"، وفي منطقة جبال الألب يطلق عليها "ثلج القديس بطرس". من هنا يتضح من أين استوحى الروائي عنوان روايته.
أطروحة جريئة
تقترن هذه الآفة بتصورات غيبية، وكانت معرفة المزارعين بتأثيراتها تفوق معرفة العلماء، وهذا الفطر الطفيلي "ثلج القديس بطرس" له حكاية غريبة، إذ تشير السجلات التاريخية إلى أنه في السنة التي ظهر فيها الفطر وسط إيطاليا، ضرب طاعون الحبوب المنطقة بأسرها، وادعى حينها 17 فلاحا وعاملا النبوة، وانطلقوا بالتبشير واكتسبوا كثيرا من الأتباع، وأعدم منهم أربعة بحد السيف، وفي السنة التالية ظهرت الآفة بالقرب من فيرونا، وبعد بضعة أسابيع فقط احتشد نحو خمسة آلاف شخص في المدينة من الأرستقراطيين والمواطنين العاديين، رجالا ونساء وأطفالا، في حشود مرعبة، وساروا وهم يتلون مزامير التوبة، منتقلين من مدينة إلى مدينة، مهاجمين من كل حدب وصوب كل من يخالف تعاليمهم.
تتبع البارون أثر فطر الحبوب عبر العصور، ووجد أن كل الحركات الدينية العظمى إبان القرون الوسطى والعصر الحديث مثل طائفة الجلادين، وحالة وباء الرقص، وحركة ملاحقة الهراطقة وغيرها من الحركات التي تتعاظم فيها النشوة الدينية، وظهرت فيها صحوات مرتبطة بانتشار فطر ثلج القديس بطرس، في أطروحة جريئة ومحاولات لتجربة الفطر على مزارعي المنطقة، فهل تنجح التجربة الغرائبية؟