«دائرة التوابل» .. وجود بلا رائحة
تشكل التوابل إضافة مهمة لمختلف أنواع المأكولات، تمنحها نكهة خاصة وتميز بين بعضها بعضا، ويعتمد الإنسان على حاسة الشم لاكتشاف أنواع مختلفة من التوابل، يتميز كل منها بخصوصية معينة وفرادة تحدد أوقات وظروف وأماكن استخدامها، ولم يتوقع أحد أن تأخذنا التوابل بروائحها المختلفة إلى عالم من الخيال الواقعي، حين أصبحت عنوانا لرواية عربية دخلت القائمة الطويلة لجائزة الـ"البوكر العربية"، حملت عنوان "دائرة التوابل" للروائية الإمارتية صالحة عبيد، الصادرة عن منشورات المتوسط في ميلانو إيطاليا.
تدفع رواية صالحة عبيد القارئ للغوص في نوع مختلف من القراءة، وتطرح أسئلة وجودية وتناقش علاقة الإنسان بالرائحة وكيف تحاكي الرائحة مخزون الذاكرة، بحيث يتنقل القارئ بين صفحات روايتها الـ200 تقريبا، في ثلاث مراحل أساسية في حياة بطلتها "شريهان"، سليلة عائلة تعمل في تجارة التوابل، وقد لفتت نظر والدها أولا، ثم جميع من عرفوها بأن لديها قدرة على تمييز مكونات التوابل من خلال الرائحة، وذهبت لدراسة التشريح في العاصمة الاسكتلندية أدنبرة، لتجد نفسها مأخوذة بهاجس الموت واكتشاف أسراره.
معرفة العالم
البطلة "شريهان" تجسد مجتمعا قائما بذاته، فهي الفتاة الصغيرة التي تتعرف على العالم من خلال روائحها، بطيبها وخبثها، تستطيع أن تميز كل عنصر على حدة في خلطة توابل دون أي مشقة، كما تميز البشر وحالاتهم النفسية من خلال روائحهم، تتودد إليهم أو تنفر منهم من وحي روائحهم على نحو ما يفعل سائر الناس من وحي سلوكهم والكلمات.
وقعت شريهان في شباك "صبي المقبرة" الفتى الذي لا يملك أي رائحة، وكانت تشمئز منه وتغضب عليه، لكنها تبحث عنه كي يخبرها عن رأسه الكبير، وحين انتقلت من العيش في المكان القريب من "سور المقبرة" حيث كانت تلعب معه، أعادتهم الذاكرة إلى أيام الطفولة، وبعد أعوام جاء الفتى منعدم الرائحة بعد أن أصبح رجلا، لا يملك أيضا رائحة الرجال الحامضية، وطلب منها الزواج، وافقت رغم كل اشمئزازها منه، تقول له إنها لا تستطيع أن تحبه ولا أن تتزوجه، لأنه منعدم الرائحة، بل إن لديه رائحة ما، لكنها ليست مثل روائح الرجال، لتكتشف ربما أن للذكريات رائحة نشتمها كلما صادفنا من يعيدنا إليها، وبالتالي تخلق نوعا من التناغم اللامنطقي ولكن الحقيقي بين شخصين لا يجمع بينهما أي شيء وقد يجمع بينهما كل شيء.
زوج بلا رائحة
إن مشكلة الرائحة مع بطلة الرواية مشكلة وجودية، لا يمكن أن تتوافق مع شخص لا رائحة له، فالرائحة مفتاح تستخدمه لتكتشف منه طباع وسلوكيات وأنماط الشخصية التي أمامها، وهذه الميزة لم تجدها في "صبي المقبرة" ورغم ذلك قادتها رائحة الذاكرة إلى الزواج منه، لتندفع نحو مصير مبهم مقدر. ولأنه بلا رائحة قررت أن يبقى زواجه منها صوريا، لا يقترب منها ولا يلمسها، إلى أن استلمت لإلحاحه مكرهة ذات مرة، وحملت بابنته التي ولدت كوالدها بلا رائحة، وبالتالي فقدت أي قدرة على التواصل معها أو الشعور تجاهها بالأمومة، ما قادها في النهاية إلى قتل رضيعتها وقتل نفسها لتتحرر وتحرر نفسها.
الرائحة .. وجود
لم تكن "دائرة التوابل" الرواية العربية الأولى من نوعها التي تعبر عن القيمة الرمزية للرائحة والدلالة الثقافية والفلسفية التي قد تحملها، روايات عربية كثيرة بحثت في هذا المجال، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على مدى أهمية الرائحة في منحنا الشعور بوجود هذا الشخص، ومدى تعلقنا به سلبا أو إيجابا، نحن نعرف الأشخاص من روائحها، وفي بعض الأحيان نحكم على طبيعة شخص ما انطلاقا من رائحته، وبالتالي تصبح حاسة الشم كناية عن قيمة ورمز وثقافة وفلسفة وفي أحيان كثيرة هي كناية عن مبرر أخلاقي وموضوعي، يغوص في تحولات الزمان والمكان ويكشف النقاب عما خفي من حقائق وأفكار.
أن الرائحة لها قيمة مميزة ودائمة لارتباطها في الذاكرة بأحداث ومواقف كثيرة، وتمكنها من نقلنا إلى حيث بنينا الذكرى معا في يوم كنا فيه هناك، تقول في الرواية "لكل جسد دمغة خاصة به، هي دمغة الرائحة، وكأن الرائحة هي امتداد لهوية الإنسان، لوجوده".
حاسة الشم
ورثت "شريهان" حاسة الشم بالفطرة، ولكنها عرفت كيف تستفيد منها في الكشف عن هويات وأسرار وطبائع البشر والناس، ما جعل الرواية بحد ذاتها تدور في فلك "الإنسانية" بمفهومها الواسع، وتعالج هواجس فكرية متصلة بأسرار الموت ومصادر المعرفة.
وترافقنا الرائحة في أكثر من موضع في الرواية، الرائحة بالنسبة لها من ألغاز الكون التي يمكن النفاذ منها إلى الإنسان وعلاقته بكل ما يحيط به، تلك العلاقة الغامضة التي لا شيء فيها مكتمل، كذلك حاسة الشم ميزة انفردت بها الشخصية الروائية، إلا أنها تود أحيانا لو تفقد حاسة الشم، لتستطيع التعاطي مع العالم بشكل مجرد عن انطباعات الرائحة.
رائحة الموت
في "دائرة التوابل" تكتشف أن للموت رائحة، تماما كما للذاكرة رائحة، وهذه الرائحة تخبرك أمورا كثيرا كنت تجهلها عن الموت وأسراره، ومن خلال شرح تفاصيل موت والدها ووفاة والدتها، تغامر صالحة عبيد في ولوج مساحات من الوصف للموت تجعل القارئ يشتم رائحته وهو يقرأ كلماتها. كذلك رحلاتها إلى المقابر ووقوفها أمام جثث التشريح الأول يوم سافرت إلى جلاسجو لتدرس في كلية الطب. في جميع هذه الوقفات تحاول أن تقدم لنا نموذجا أو أسلوبا معينا لفهم الموت واستيعابه وسبر بعض أغواره، تجعل له رائحة وتربطه بحاسة الشم، الملعب الوحيد الذي تنفرد في بطولته منذ أن كانت صغيرة، وبالتالي تحاول جر الأسئلة الغامضة والمبهمة إلى عالم الشم والروائح كي تتمكن من فهمها وتقديم صورة واضحة عنها.
بعيدا عن النمط التقليدي
لا يختلف اثنان على أن رواية "دائرة التوابل" بعدية كل البعد عن النمط التقليدي، لجهة الموضوع والأفكار التي تتناولها والشخصيات وحتى عناصر الزمان والمكان. لا تتبع صالحة عبيد بنية سردية تقليدية ولا تعتمد على حكاية واحدة تبدأ حيث تبدأ وتنتهي حيث تنتهي، بل العكس تماما، ففي الرواية ثلاث حكايات، ثلاثة أزمنة، وثلاث مدن. ما يجمعها هاجس الموت الذي يعد أحد أسئلة الحياة الكبرى، فلولا الموت لما وجدت حياة. ويصل بها الخيال إلى مخاطبة جسد الميت الذي في نظر الروائية يحكي كثيرا ولا يستطيع صاحبه التحكم فيه. وإضافة إلى الموت، تبقى للذاكرة حصة الأسد في هذه الرواية، الذاكرة التي نعود إليها ونستحضرها متى شعرنا بالفراغ حولنا، أو باقتراب ما نخشى حدوثه. الذاكرة في هذه الرواية عبارة عن حيلة دفاعية ضد هجمات الحياة.
وتتميز الرواية ليس فقط في خروجها عن النمط التقليدي من حيث الفكرة فحسب، بل تعتمد أيضا على لغة جزلة قوية، فيها شعرية وفيها خيال. فهي تعتمد على لغة خاصة، لغة تقول الأشياء ضمنيا، لغة سليمة، لا حشو فيها، ولا عبارات زائدة تبعد القارئ عن متعة القراءة.