الاقتصاد البنفسجي .. الثقافة بإمكاناتها الكامنة
الثقافة أخطر من أن تكون من كماليات الحياة، فالحياة نفسها هي الوجود المثقف للكائنات، هذه هي الحقيقة الحتمية التي خرج بها الأديب يوسف إدريس في كتابه "أهمية أن نتثقف يا ناس"، فأي دور ثقافي يمكن للدولة أن تقوم به في القرن الـ21؟ وكيف يمكننا إعادة تصميم العمليات والخدمات والأنشطة الثقافية في المستقبل لإيجاد الإنسان المثقف والواعي؟
في كتاب "من الإرشاد إلى التثقيف"، لمؤلفه الدكتور محمد محمود عبدالعال حسن، وصفة ودراسة حالة عن المؤسسات الثقافية، ليثير تساؤلات عن إعادة تنظيم الحقل الثقافي في الدول بوصفه مساكن تضمن مساحات للإنتاج الثقافي، وتسهل طرق نشره.
حضور مادي وغياب معنوي
"حضور كالغياب" .. هكذا يصف أحد رؤساء الهيئة العامة لقصور الثقافة السابقين أزمة أهم مؤسسة ثقافية في تاريخ مصر الثقافي، التي تعطي درسا لمؤسسات ثقافية عربية، حتى لا يصبح حضورها كغيابها.
ثنائية الحضور والغياب تثير جدلية الواقع، يوثقها الكتاب الصادر حديثا عن مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة، ويتضمن تاريخا نقديا لوزارة الثقافة المصرية والهيئة التابعة لها (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، في دراسة مستمدة من البحث النظري والميداني، تحاول أن تفهم القارئ كيفية وصول المؤسسة إلى وضعها الحالي، وتستطلع الحضور المؤسسي، وأبعاده، وامتداده، ومشكلاته، وحقيقته، وأسباب الغياب المؤسسي وآثاره، ما دعا البعض للتساؤل: أهو حضور مادي وغياب معنوي؟ أو بعبارة أخرى "كفاءة دون فاعلية"؟
يخلص الكتاب إلى أن حجم وتعقيدات مؤسسات الدولة له تأثير على التنمية الثقافية، فمقدار دور الدولة التدخلي، سواء عبر القيود أو المحفزات، يسهم في التأثير والحالة الثقافية، كما يتطرق إلى إدارة هذه المؤسسات، إذ يقول الكاتب أن "للمؤسسات دورة حياة بيولوجية خاصة بها، فإنه لم تكد تمض أعوام على التأسيس الحكومي لهيئة قصور الثقافة، حتى لاحت غيوم الاضطرابات الإدارية تتزاحم في أفقها المؤسسي"، وعانت بعد ذلك من الإرهاق المؤسسي، متناولا الدروس المستفادة من هذه التجربة الثقافية، لتصبح هذه الدروس أسسا ومبادئ يمكن الاستفادة منها في الهيئات الثقافية السعودية، ودول الخليج، والعالم العربي.
صناعة الثقافة وتسليعها
يلفت الدكتور محمد عبدالعال في كتابه بأن فكرة صناعة الثقافة تدعو للنظر لما يسمى بـ"الاقتصاد السياسي للثقافة"، أي الرغبة الجامحة لعدد من الشركات الاقتصادية والتجارية في تنميط الثقافة وقولبتها لمزيد من الربح والقوة والتملك والسيطرة على المجتمع ووعيه.
وبمجرد النظر إلى الثقافة بوصفها "صناعة محضة"، يطرح تساؤلا عن تسليع الثقافة وماديتها والاستهلاك الإبداعي والاختزال وفق التصورات المالية، وبعيدا عن بوصلة الإبداع الحقيقي الفني.
وفي الحالة العربية، يرى الكتاب أنه يجب إعادة النظر في دور الدولة الثقافي، وتدشين عقد اجتماعي جديد للثقافة والتربية، ليتحول إلى داعم لأشكال العمل التعاوني ومشجع للمبادرات الثقافية والفنية ومحفز لها، ومسؤول ومراقب ومنسق بين الجهات الحكومية وغير الحكومية، مضادا بذلك التحكم الهرمي.
وللدكتور محمد عبدالعال كتاب آخر ذو صلة، يحمل عنوان "إعادة التفكير في التنمية الثقافية.. لاستئناف وصل المؤسسات والسياسات والأخلاق"، يتناول الثقافة بإمكاناتها الكامنة بوصفها قوة دافعة للتنمية المستدامة، تسهم في إيجاد قطاع اقتصادي قوي قابل للاستمرار، في مفهوم يطلق عليه "الاقتصاد البنفسجي".
تغيير متسارع
لا يمكن للحكومات الاستمرار بهيكلها نفسه وعملياتها البيروقراطية القائمة اليوم، وقوانينها وسياساتها الصارمة التي تم صياغتها في القرن الـ20، فالتغيير يحدث بوتيرة متسارعة، والمرونة عاملا حاسما اليوم، وفقا لتقرير حالة الإدارة الحكومية في العالم العربي.
وبناء على ذلك، فإن المؤسسات الرسمية الثقافية لها عميق الأثر في حالة التنمية الثقافية، التي تسهم في رفع المستوى الفكري، كي لا تنحدر الشعوب ثقافيا وسلوكيا إلى الدرجة التي يهدد فيها الوجود البشري.
ويدعو كتاب "من الإرشاد إلى التثقيف" إلى إشراك المواطنين في الحياة الثقافية من خلال تعزيز "الكفاءة الثقافية" للفرد ومصالحه الثقافية وقدرته على التعبير عن نفسه وقدرته على التعلم الذاتي الثقافي والتعبير الفني والثقافي وممارسة الأنشطة التواصلية والثقافية لبناء المجتمع.
كما أن التعلم الثقافي شرط أساسي للمشاركة الثقافية، لأن الهدف الأساسي للعمل الثقافي هو "التمكين الثقافي" للمواطن الفرد، من خلال بنية تحتية متنوعة ومدعومة ومصممة من قبل الجهات الفاعلة المختلفة، مع أهمية أن يكون هناك مزيد من الاستثمارات هو "التمكين الثقافي" والتفاعل بين المؤسسات الثقافية والتعليمية، لأنها هي الطريقة الوحيدة لضمان وجود فاعلين ثقافيين في كل الطبقات الاجتماعية.
تفعيل المنظومة الثقافية
يخرج الدكتور عبدالعال بمجموعة من التوصيات المقترحة في نهاية كتابه لتفعيل التنمية الثقافية، مثل إنشاء قاعدة بيانات ثقافية لتحديد الاحتياجات ووضع الأولويات لكل منطقة أو محافظة، ومعرفة الفجوات والموارد وأعداد السكان ونوعيتهم وأعمارهم، وأهم المشكلات والقضايا الثقافية ذات الصلة.
ويدعو أيضا إلى تفعيل المنظومة الثقافية كلها، لتقوم على الشراكة المجتمعية للشأن الثقافي، وصياغة رؤية ثقافية تمكن المواطنين من الإنتاج والاستهلاك والاستمتاع بالفنون والحصول على المعرفة والارتقاء بالذوق وإطلاق حرياتهم في الإبداع.
وبدلا من إعادة الإنتاج الروتيني، تظل المؤسسات الثقافية في حاجة إلى "ترتيبات مؤسسية ذكية" ومرنة تعزز من قدرة القطاع الثقافي ليصبح أكثر استجابة للتحديات واقتناصا للفرص.