لا تحديات واقعية أمام الإعلام الرقمي

"الإعلام الرقمي مثل قطار على شكل رصاصة، وهذه الرصاصة لن تعود لمكان انطلاقها"

هاورد شولتز، مؤلف ورجل أعمال أمريكي

ليس من المبالغة القول، إن التحديات التي تمر بها الصحافة الورقية، انتقلت من مرحلة "كسر العظم" مع الثورة الرقمية، إلى حالة أقرب للاستسلام. لم تعد أدواتها توفر القدرة لها على المضي في "النزاع" الذي بدأت قبل ربع قرن تقريبا، عندما حقق فيه الإعلام التقليدي، بعض الانتصارات العابرة. أما لماذا كانت عابرة؟ فلأن التقدم التكنولوجي المتسارع جدا، اختصر مساحات زمنية لحساب الصحافة غير التقليدية، بما في ذلك اتساع رقعة الوصول إلى الأدوات الحديثة، وتراجع تكاليفها المالية بمعدلات كبيرة وسريعة أيضا على الناس.

"المواجهة" صارت صعبة على الصحافة الورقية، إلى درجة أن نسبة كبيرة من وسائل الإعلام التقليدية خرجت من السوق نهائيا، حتى في مجتمعات تعد الصحافة عموما جزءا أصيلا من ثقافتها اليومية.

التحول الرقمي لم يعد خيارا، بل صار أمرا حتميا على كل مؤسسة صحافية تسعى إلى الاستمرار مدة أطول. ففي الولايات المتحدة توقف ما يزيد على ربع الصحف التي كانت موجودة في 2008، ومنذ هذا العام تم تسريح نصف العاملين في الصحافة المكتوبة في البلاد.

والأمر يكاد يتطابق في بلد كبريطانيا، التي لم تستطع صحف قوية "معاندة" التحولات، فاضطرت لتوفير المحتوى عبر منصاتها الإلكترونية. بعضها لم يصمد حتى عبر هذه الأدوات كثيرا.

ولأن المؤسسات الصحفية الربحية تعتمد أساسا على مداخيل الإعلان، أكثر من عوائد التوزيع، فقد تراجعت هذه المداخيل بقوة في الأعوام العشرة الماضية.

فالإعلان الذي كان يصل لنسبة محدودة من المستهلكين، صار يصل إلى نسبة كبيرة لا تقارن، فضلا عن أن التقدم التكنولوجي، وفر ميزة إعلانية عالية الجودة، وهي تلك التي تستهدف المستهلك الباحث عن سلعة أو خدمة بعينها.

التحولات لا تزال موجودة على الساحة، وهي فائقة السرعة، والوصول السهل والرخيص إلى الشبكة الدولية والخدمات الإلكترونية، يسهم مباشرة في دعم هذه التحولات بقوة فاعلة.

والأمر لا يرتبط فقط بالميدان الإعلامي، بل يشمل أيضا الاقتصاد، الذي باتت "رقمنته" الهدف الأهم لكل المؤسسات بصرف النظر عن طبيعة منتجاتها. لا شيء سيقف أمام التحولات الرقمية عموما، على الرغم من أنها كغيرها من الأدوات لها سلبياتها أيضا. غير أن المسار منطلق بالفعل ودخل منذ أعوام منطقة "اللا عودة".

فالمنصات الإخبارية غير المهنية تسهم بالطبع في انتشار المواد المزيفة، لكن هذا يعد فرصة للمؤسسات الصحفية التقليدية المتحولة، التي تبقى متمتعة بمصداقية عالية الجودة، وهنا يمكنها تسجيل نقاط مهمة لوجودها في الفضاء الإلكتروني.

المؤسسات الصحفية التقليدية التي لا تزال صامدة، هي تلك التي لا تعتمد على الربحية، وستبقى كذلك، لأن معايير الربح والخسارة لا تمثل هما أساسيا لها. ولذلك فإن المؤسسات الربحية منها هي التي تقوم بكل ما تستطيع لمواكبة التحولات، وإلا ستخرج من الساحة.

ويمكنها "لو نجحت في التحول" أن تحقق عبر منصاتها الإلكترونية كثيرا من العوائد، ولا سيما خاصية التواصل مباشرة مع المتلقي ـ المستهلك، أو لنقل التفاعل الذي يرفع بالضرورة من قوة الأدوات على صعيدي المحتوى والخدمات عموما. لكن على المؤسسة أن تكون "ناشرا" أولا، قبل أن تكون "مسوقا"، وهي بذلك تضمن الاستمرار وتحقيق أهدافها وفق المتغيرات التي لا تتوقف.

فالمسألة لا تتعلق فقط بتحول رقمي، بل في ثقافة متغيرة عند المتلقين بصورة عامة، لا بد من أخذها في الحسبان، ولا سيما الأجيال الجديدة التي لا ترى ما يشد في حمل صحيفة أو مطبوعة وقراءتها، بل إن هذه الأجيال تتقدم حتى على بعض الجهات الصحفية التقليدية التي لا تزال تراوح مكانها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي