الذكاء الاصطناعي سيساعدنا في اختيار الملابس خلال عامين
هناك مجموعة من الناس تستطيع معرفة أن 2023 سيكون عام لون باربي الزهري قبل أي أحد، وكذلك بأن الناس سيتهافتون على الأزياء "الفاخرة الهادئة" التي شاهدها الناس في مسلسل "ساكسيشن" (Succession).
مهمة هؤلاء هي استشراف اتجاهات الموضة، ويعملون على استخلاص مزاج الجمهور، وتحديد ما سنطلب قبل أن ندرك ما الذي سنرغب به.
لا يكشف هؤلاء المتنبئون عن أسرارهم، ويتقاضون أتعاباً ضخمةً لقاء تقديم الرؤى حول مستقبل الموضة لعملائهم. فكلما زادت دقة العلامات التجارية وشركات البيع بالتجزئة في تحديد اتجاهات الجمهور المستهدف، تضاعفت الأرباح التي سيحققونها.
وبحسب "اقتصاد الشرق مع بلومبرغ" يبلغ حجم سوق البيع بالتجزئة 540 مليار دولار سنوياً في الولايات المتحدة وحدها. لذلك فإن التنبؤ باتجاهات الموضة مهمة صعبة. لكن تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي غيرت طريقة عمل الشركات الرائدة عالمياً في هذا المجال مثل "نيلّي رودي" (NellyRodi) و"دبليو جي إس إن" (WGSN).
اتجاهات الموضة
هيمنت حفنة من الناس على استشراف اتجاه صناعة الأزياء لعقود. فقد كان محررو مجلات الأزياء الرائدة مثل "هاربرز بازار" (Harper’s Bazaar) و"فوغ" (Vogue) يحددون صيحات الموضة وفقاً لما ينشرون، ونذكر عرابات الموضة في "فوغ" اللاتي خلدتهن هوليوود مثل ديانا فريلاند في فيلم (Funny Face)، أو آنا وينتور في (The Devil Wears Prada).
كما سيطر مسؤولو التسويق في جادة ماديسون بولاية نيويورك، التي تحتضن غالبية بيوت الأزياء، على الرسائل الإعلانية. ثم ظهرت الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والمدونات والبث الرقمي، وغيرها من التقنيات التي جعلت الموضة أوضح، واتجاهاتها أكثر تقلباً، إذ تضطلع الحواسيب بكثير من المهام في عالمنا اليوم.
يعود تاريخ التوقعات في عالم الموضة كما نعرفها الآن إلى عام 1915، الذي شهد صياغة التقارير الأولى بشأن توقعات الألوان الأكثر رواجاً من قبل "جمعية بطاقات ألوان النسيج في الولايات المتحدة"، المعروفة حالياً باسم "جمعية الألوان الأميركية" التي تصدر التقرير ذاته.
ظهرت غالبية شركات التنبؤ التي نعرفها اليوم خلال حقبة الستينيات والسبعينيات، عندما أصبحت التوقعات أكثر تعقيداً، فوسعت تلك الشركات مجال عملها من الألوان والأقمشة الرائجة، ليشمل إلهام التصميمات، وأضافت اتجاهاً إبداعياً أوسع نطاقاً.
كما وضع "نظام المضاهاة من بانتون" (Pantone Matching System) لمطابقة الألوان في 1963 كأداة لتوحيد رموز الألوان، ما منح الصناعة لغة مقبولة على نطاق واسع للتعامل مع الألوان، فيما أسست فيث بوبكورن، مستشارة التسويق والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية، شركة الاستشارات الخاصة بها تحت اسم "برين ريفريس" (BrainReserve) في 1974 كأعرق الشركات المتخصصة في التنبؤ باتجاهات الموضة.
تعد شركات مثل "نيلّي رود"، التي تأسست في 1985، و"دبليو جي إس إن"، 1998، من أبرز المتنبئين في مجال الموضة اليوم. تقول "دبليو جي إس إن" إنها تخدم أكثر من 6500 عميل حول العالم، لكنها تشتهر بالسرية بشأن مجموعة واسعة من عملائها. وهناك عدد قليل من الشركات التي أُعلِنت أسماؤها وهي "غوغل" و"إل جي إلكترونيكس" و"بوما".
قالت فرانشيسكا موستون، نائبة رئيس قطاع الموضة لدى "دبليو جي إس إن": "يتحدث الناس كثيراً عن مدى سرعة صناعة الأزياء في تغيير اتجاهاتها"، موضحةً أن الحقيقة هي أن غالبية عملاء الشركة ما زالوا يعكفون على تصميم مجموعات الأزياء لمدة عام على الأقل قبل إطلاقها.
فن أم علم؟
يعتبر تحديد اتجاهات الموضة فناً وعلماً في آن معاً، كما تتطور نقاط البيانات التي يستند إليها باستمرار.
هناك بالطبع تصميمات تُطرح خلال عروض الأزياء والمعارض التجارية، لكن الأحداث الهامة في ثقافة موسيقى البوب، وإصدارات الأفلام أو الألبومات وإطلالات السجادة الحمراء المتميزة، والحفلات الموسيقية أو الجولات الفنية، يمكن أن يكون لها تأثير كبير على الجمهور أيضاً.
على سبيل المثال، بدأ نزعة المغالاة مع أحداث مثل تعيين مصمم الأزياء الشهير بالمبالغة أليساندرو ميكيلي مديراً إبداعياً لدار الأزياء الإيطالية "غوتشي"، وظهور ريهانا في حفل "ميت غالا" بعباءة إمبراطورية صفراء مزدانة بالفراء من تصميم الصينية غو باي.
يبحث المحللون أيضاً في وسائل التواصل الاجتماعي لجمع البيانات. تُصنف شركة استخبارات السوق "إيديتد" (Edited)، المتخصصة في تحليلات البيع بالتجزئة، والتي تضم قائمة عملائها شركات مثل "أبيركرومبي آند فيتش" (Abercrombie & Fitch) و"بوهو غروب" (Boohoo Group)؛ شيئاً ما على أنه نزعة إن رأت ثلاثة منشورات عنه فقط.
تكتسي الأرقام أهمية كبيرة في هذا الإطار، حيث يتتبع المتنبئون باتجاهات الموضة بيانات بطاقات الائتمان مثل تاريخ التسوق عبر الإنترنت، وتواتر زيارات المتاجر والمشتريات، ويعتمدون على استطلاع آراء المستهلكين بشكل كبير. كما يأخذ المتنبئون التوقعات الاقتصادية والمناخ السياسي وحتى الطقس، وأي شيء يمكن أن يؤثر على معنويات المستهلك أو سلاسل التوريد، في الاعتبار.
بينت سوزان بياتزا، الأستاذة المساعدة في "كلية بارسونز للتصميم" في نيويورك والتي عملت سابقاً في سلسلتي "جي كرو" (J.Crew) و"جي سي بيني" (JCPenney) لبيع الملابس، أن مراقبة المتسوقين في المتاجر والاستفسار عن عاداتهم في الشراء من الأمور بالغة الأهمية، وقالت: "إنك ترى ماذا يرتدون وتتحدث معهم وتناقشهم وترى ما يعجبهم وما لا يستسيغونه".
لكن بجانب تحليل البيانات وتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، يظل أحد أسرار التنبؤ هو توافق نحو 20 % إلى 30 % فقط من المنتجات المعروضة على أرفف المتاجر مع اتجاهات الموضة، بينما تصنف بقيتها كأساسيات موسمية.
كما لا يمكن لمعظم تجار التجزئة والعلامات التجارية استنفاد كامل مخزوناتهم كل بضعة أشهر لملاحقة موضة عابرة، إلا إذا كان نموذج العمل بالكامل يعتمد على ملابس رخيصة وعصرية تنتج حسب الطلب، على غرار "شي إن" أو غيرها من شركات التجزئة في قطاع الموضة السريعة.
تقول بياتزا إن معظم واجهات العرض الجذابة "قد لا تحقق أرباحاً لمعظم العلامات التجارية، لكنها مهمة في جذب انتباه المستهلكين".
حالة "باربي"
كان فيلم "باربي" في 2023 مثالاً حديثاً على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وثقافة البوب على استشراف اتجاهات الموضة. ربما لم يكن الشخص العادي في 2021 ليتوقع انتشار اللون الزهري، وامتداد تأثير "باربي" إلى الحياة العامة، فيما عرف بظاهرة "باربيكور" (Barbiecore).
أما المتنبئون باتجاهات الموضة فكانوا ليقولون غير ذلك، إذ أتت مجموعة "فالنتينو" لأزياء خريف 2022 أشبه باحتفالية باللون الزهري. فيما اختارت "بانتون"، في ديسمبر 2022، مزيجا من اللونين الزهري والقرمزي يعرف باسم "فيفا ماغنيتا" ليكون لون موضة 2023.
توقع الخبراء أن فيلم "باربي" سيشكل قوة إبداعية في مجال الأزياء والمنازل والتجميل، لأن الدمية والعلامة التجارية تمثلان معاً رمزاً ثقافياً عالمياً. تقول كايلا مارسي، كبيرة محللي سوق البيع بالتجزئة في "إيديتد"، إن أفكار "استعادة الطفولة" و"ارتداء الملابس المبهجة" كانت جاهزة للانطلاق بعد إلغاء قانون "رو ضد ويد" المتعلق بحماية حق الاجهاض في 2022، وذلك لأن المناخ السياسي له أثر على الموضة.
كوفئت متاجر البيع بالتجزئة والعلامات التجارية التي اتبعت نصائح المتنبئين باتجاهات الموضة، فقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات "باربيكور"، وحصدت المقاطع المصورة عبر منصة "تيك توك" 1.1 مليار مشاهدة، فيما شارك مستخدمو "إنستغرام" الوسم أكثر من 600 ألف مرة. كما تمدد قطاع التسويق العالمي للمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحده ليبلغ حجمه 21 مليار دولار في 2023، وهو فرصة مربحة إذا أصابت توقعات الشركات هذه الأحداث.
مع ذلك، تفوّت الشركات أحياناً الأمور الظاهرة. تقول جيسيكا راميريز، كبيرة محللي "جين هالي أند أسوسيتس" لاستشارات وأبحاث البيع بالتجزئة، إن شركة "غاب" (Gap)، التي اشتهرت بتصميمات الملابس المصنوعة من الجينز خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، "لم تشارك في انتعاش السوق" بعد انتهاء جائحة "كورونا" وعودة الجينز إلى الواجهة. كما أشارت راميريز إلى مبيعات متاجر الشركة وتخفيضاتها المستمرة على منتجاتها كدليل جديد على كيفية تأثر أرباح الشركة بتفويت الاتجاهات.
آفاق المستقبل
يغير اضطلاع التقنية ببعض الأدوار توقعات خبراء الموضة باطراد. تقول بياتزا إن انتشار التجارة الإلكترونية يعني أن المستهلكين اليوم أقل ولاءً للعلامات التجارية، وأقل استعداداً لتقديم تنازلات بشأن ما يريدون، مما يعزز حجة التنبؤ بطبيعة الطلب مستقبلاً.
لذلك، تتجه المزيد من الشركات إلى بغية التنبؤ باتجاهات الموضة. وجد استطلاع أجرته مجلة "بيزنس أوف فاشون" (Business of Fashion) وشركة "ماكنزي" (McKinsey) للاستشارات، أن 73 % من المديرين التنفيذيين لشركات الأزياء قالوا إن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيكون من أولويات شركاتهم خلال العام المقبل.
تتنبأ تطبيقات الذكاء الاصطناعي، شأنها شأن المتنبئين من البشر، بالاتجاهات عبر تحري وسائل التواصل الاجتماعي، وتقييم الإطلالات على منصات العروض، وتحليل بيانات البحث وتوليد الصور. قال أكيم بيرغ، الشريك الرئيسي والخبير العالمي في صناعة الأزياء والرفاهية بشركة "ماكنزي" (McKinsey) للاستشارات: "يكمن التحدي في تفسير التحليل واستخلاص النتائج، ومن ثم القدرة على التنفيذ".
تستخدم "دبليو إس جي إن" الذكاء الاصطناعي التوليدي في توقعاتها لتخيل الاتجاهات التي ربما لم تظهر بعد. تقول موستون: "اضطررنا سابقاً للاعتماد على نماذج الابتكار التي رأيناها وتواجدت في السوق، أو ربما نماذج أولية. لكننا الآن قادرون على البدء في ابتكار صور جديدة تساعدنا نوعاً ما في تصور المستقبل لصالح عملائنا أيضاً".
كانت بعض شركات البيع بالتجزئة قد استعانت بالذكاء الاصطناعي منذ فترة طويلة لتعديل المخزون والأسعار بسرعة. ترى راميريز أنه: "يمكنك إدارة شركات أكثر براعة وربحية إذا كنت قادراً على تعديل المتغيرات بشكل صحيح"، مضيفة أنها تبحث عن شركات البيع بالتجزئة التي تستثمر كثيراً في تحليل بياناتها للحصول على رؤية ثاقبة: "هذا هو الذكاء الاصطناعي الذي أتحمس له".
كما استخدمت شركات أخرى، بما في ذلك "إيديتد"، الذكاء الاصطناعي منذ فترة طويلة لجمع بيانات مواقع شركات البيع بالتجزئة. بذلك تتمكن الشركات من قياس مدى سرعة بيع السلع أو تجديد المخزون، ثم يستخدم الذكاء الاصطناعي تلك المعلومات لمساعدة الشركات على التنبؤ بالسلع التي يتعين عليها زيادة مشترياتها منها.
تقول شركة "إيديتد" إنها ساعدت شركة "وولورث" (Woolworths) في جنوب أفريقيا على اكتشاف أن الأوشحة المُزيّنة برسومات حيوانات تباع كلها خلال أسبوع تقريباً، وقد دفعت هذه المعلومة شركة التجزئة إلى زيادة مخزونها من الألبسة المزينة بتلك الرسومات، فازدادت مبيعاتها بقيمة 25 ألف جنيه إسترليني (31740 دولاراً).
عندما يتعلق الأمر بمقارنة فن التنبؤ بعمل الحاسوب، لا يمكن الاعتماد على نتائج البيانات وحدها. تقول موستون من "دبليو إس جي إن" إن جميع البيانات كانت تشير إلى زيادة الطلب على السراويل الرياضية والسترات التي لها غطاء رأس مع خروج العالم من جائحة كورونا.
أضافت: "لو أننا اتبعنا البيانات بشكل أعمى، لكنا ننصح الناس بصنع مزيد من السراويل الرياضية ليستخدمها الناس في مستقبل بائس يجنحون فيه لارتدائها". بدل ذلك، رأى محللو "دبليو إس جي إن" أن معدلات اللقاحات وحجوزات السفر تتزايد، فقرروا "تجاوز اتجاه البيانات" للمراهنة على الطلب المكبوت على ملابس الخروج، ومن ذلك المزيد من الفساتين والأحذية ذات الكعب العالي الملائمة لحفلات الزفاف والعطلات، اعتماداً على حتمية عودة هذه التجمعات. تعتبر موستون أن ذلك القرار كان "عين الصواب".