«حرب الرقائق» ليست رقيقة

«نحن اخترعنا أشباه الموصلات، وحدث شيء، صار العمود الفقري لاقتصادنا أجوف»
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة

لعل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، من أكثر الإدارات التي مرت في العقدين الماضيين على البلاد، اهتماما بصناعة الرقائق الإلكترونية "أشباه الموصلات"، والخوف عليها. ففي عهدها تكرست حقيقة أن هذه الصناعة تدخل مباشرة في الأمن القومي. والسبب في هذا الاهتمام، يعود بالدرجة الأولى إلى الطلب الذي لا يتوقف على هذه "الرقائق"، يضاف إلى ذلك طبعا، الحاجة إلى أنواع متطورة جدا منها في مرحلة التمكين الجارية حاليا على صعيد الذكاء الاصطناعي، فضلا عن أنها باتت تدخل في كل شيء تقريبا. ولذلك لا مبالغة في التوصيف الذي بات يتنشر حول العالم بشأن الخلافات حول هذه "الرقائق"، بأنها نوع من أنواع الحروب. ولأن المسألة باتت "أمنا قوميا"، كانت المواجهة الراهنة بين الولايات المتحدة والصين على هذه الجبهة طبيعية.
أسرعت إدارة باين أواخر عام 2022، إلى تخصيص تمويل هائل لدعم صناعة الرقائق على الساحة المحلية، وتلك التي ترتبط مباشرة بالجانب الأمريكي لكن إنتاجها يتم في الخارج. وهذه الحزمة من التمويل التي بلغت 53 مليار دولار، تهدف إلى شيء أساسي واحد، وهو استعادة الولايات المتحدة ريادتها في هذا الميدان، حيث يعتقد المسؤولون الأمريكيون أنها تفقدها شيئا فشيئا، أمام التمدد الصيني فيها. وسط هذا المشهد، تسعى بكين بكل قواها إلى تحقيق هدفين أساسيين، الأول عدم الارتهان إلى التكنولوجيا الأمريكية في صناعة "الرقائق"، وفي المقابل منع تصدير مواد أساسية لهذه الصناعة، بما في ذلك الرمال. وبعيدا عن التسريبات التي تشير بين الحين والآخر إلى بناء مصانع "سرية" في البر الصيني، تقوم هذه الأخيرة بالفعل بخطوات ثابتة للوصول إلى غاياتها بأسرع وقت ممكن.
 وفي المقابل هناك الجانب الأمريكي الذي لا يزال يعتمد بنسبة كبيرة على "الرقائق" المصنعة في تايوان، وهذه الأخيرة تسيطر في الواقع على الحجم الأكبر في هذه الصناعة على المستوى العالمي. ولذلك يتحرك الأمريكيون إلى ما يمكن وصفه بـ "إعادة توطين" هذا المنتج الاستراتيجي. قبل أيام أفرجت الإدارة الأمريكية عن عشرة مليارات دولار دعما لشركة "إنتل" المعروفة في هذا الميدان، كما قدمت نحو خمسة مليارات دولار لدعم البحث والتطوير في رقائق الكمبيوتر خاصة. لماذا؟ لأن ذلك يدخل مباشرة في ساحة الذكاء الاصطناعي، الذي ينتقل بسرعة شديدة جدا إلى مرحلة الحاجة الماسة له، منتقلا من مرحلة المكمل للمشهد الإلكتروني المتطور. وهذا ما يفسر في الواقع، قرارات حكومية أمريكية بمنع تصدير "رقائق ذكية متقدمة"، حتى إلى بعض حلفاء واشنطن.
 لن تهدأ "حرب الرقائق" بالطبع، وستأخذ أشكالاً أكثر عنفا، وفشلت المحاولات الأخيرة للتفاهم بين واشنطن وبكين، بما في ذلك زيارة لافتة للصين قامت بها العام الماضي جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، التي وضعت مسألة الرقائق على رأس جدول محادثاتها. ومع حزم الدعم الأمريكية للشركات المحلية، سيكون هناك نشاط" صيني آخر في المقابل في ميدان، من المتوقع أن يحقق نموا في العام الحالي بنسبة 13.1 في المائة إلى 590 مليار دولار تقريبا. والارتفاع هنا ينحصر في الواقع في زيادة الطلب على الرقائق المستخدمة بالذكاء الاصطناعي. الأمريكيون الذي يعترفون بتراجع ريادتهم وليس فقدانها في هذا المجال الحيوي، يريدون إعادتها بكل الوسائل المتوافرة. إنها مسألة أمن قومي، وهي في الوقت نفسه قضية تتعلق بالتحكم بصورة أو أخرى بالحراك العالمي في المستقبل القريب جدا. فالتغيرات متسارعة إلى درجة لا تسمح بالتقاط الأنفاس لدى المتنافسين هنا وهناك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي