ديون ضاغطة في الاقتصادات الناشئة
"هناك طريقتان لتسديد الديون، الأولى رفع مستوى الأداء الصناعي، والثانية زيادة التوفير"
توماس كارلايل، فيلسوف ومؤرخ اسكتلندي راحل
لا يوجد اقتصاد في هذا العالم إلا وله "نثيب" من الديون. إنها عملية اقتصادية طبيعية، حتى بوجود الوفرة المالية عند هذا الطرف أو ذاك. لكن المشكلة تبقى محصورة بالطبع في طيفية التعامل من هذه الديون، خصوصا إذا بلغت حدودا يمكن وصفها بالخطرة، وعندما ترتفع الضغوطات الآتية منها على الأداء الاقتصادي العالم، وعندما تشكل في النهاية قيدا يصعب الفكاك منه. وفي الأعوام القليلة الماضية، زادت المخاطر الناجمة عن تصاعد الديون في كل الاقتصادات، بما في ذلك المتقدمة منها. إلا أن لهذه الأخيرة أدواتها المتوافرة لمواجهة أعباء ديونها، في حين أن الأمر ليس كذلك بالضبط بالنسبة لديون الدول الفقيرة والناشئة. والذي رفع من مستوى هذه المخاطر، زيادة أعباء الدين في العامين الماضيين، بوصول سعر صرف الدولار الأمريكي إلى أعلى المستويات، بسبب رفع الفائدة لمواجهة الموجة التضخمية التي لا تزال حاضرة على الساحة.
وإذا كان ديون الاقتصادات المتقدمة قابلة لمعالجتها بأسهل الوسائل. فالأمر ليس كذلك بالنسبة للدول الناشئة، التي تمتعت في العقدين الماضيين بنمو كبير، ليس فقط بفعل رفع مستويات الأداء الإنتاجي والصناعي عموما، بل لجملة من التسهيلات حصلت عليها وفق اتفاقات دولية متعددة. كانت هذه التسهيلات نقطة انطلاق بعزم كبير نحو نقل اقتصادات فقيرة إلى خانة الاقتصادات الناشئة. وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقات لا تزال موجودة حتى اليوم، فإن زيادات ديونها، واترافع تكاليفها، امتص بصورة أو بأخرى العوائد الإنتاجية البكيرة لها. فالنمو فيها يتعرض لمزيد من الضغوط، كما يجري حول العالم تقريبا، وهذا يعني أن الناتج المحلي لأي اقتصاد يعاني من ديون، يواجه مزيدا من الغيوم الآتية. فارتفاع معدلات الفائدة قلص من مستويات النمو حتى في الدول التي كانت تعد محركا عالميا لهذا النمو، مثل الصين والهند وغيرهما.
وديون الدول الناشئة تواصل الارتفاع حتى في ظل الحقائق الموجودة في الميدان. وفي الآونة الأخيرة سجل حراك بيع السندات الصادرة عن الدول الناشئة ارتفاعا كبيرا بلغ مطلع العام الجاري 47 مليار دولار. وهذا يعني مزيدا من الضغوط، التي بلغت أوجها في أعقاب انفجار جائحة "كورونا"، التي أوقفت النمو بصورة شبه كاملة. واللافت أن بعض مصدري القروض الأكثر مخاطرة، عادوا إلى الأسواق بطرح عوائد مرتفعة جدا، بحسب البنك الدولي. إلى درجة أن عوائد بعض السندات التي طرحت في بلدان إفريقية 10 %. وهو معدل كبير للغاية. هنا يمكن فهم التحذيرات الأخيرة من مخاطر ديون الدول الناشئة بشكل عام. فعندما يكون عليك دين بفائدة 10 %، لا بد أنك ستعيش حالة من القلق، في الوقت الذي لا تصل فيه عوائدك الخاصة إلى مستوى عبء الدين.
كل هذا يأتي في ظل اتجاه للاقتصاد العالمي لتسجيل أضعف أداء له منذ أكثر من ثلاثة عقود، ما يعني أن مسألة الديون ستكون حاضرة بقوة بضغوطاتها ومشاكلها وتأثيراتها وسلبياتها في المرحلة المقبلة، مع نمو متواضع تتوقعه معظم المؤسسات الدولية ذات الاختصاص. ويبدو واضحا، أنه لا بد من التفكير حاليا بمسألة إعادة جدولة معظم ديون البلدان الناشئة، وهذا أمر حدث بالفعل في 2020 عندما أصيب العالم بجائحة "كورونا". فدول مجموعة العشرين التي كانت ترأسها السعودية آنذاك، أقرت سلسلة من الإجراءات لتخفيف الديون التي تكبل بلدانا فقيرة وناشئة على حد سواء. إنها مسألة حساسة لكنها تبدو أساسية في المرحلة المقبلة.