ميزانية مسؤولة غير انتخابية

"اتخذنا قرارات صعبة لكي نعيد اقتصادنا إلى المسار الصحيح"
جيرمي هانت، وزير المالية البريطانية

يبدو واضحا أن ظروف الاقتصاد البريطاني الصعبة، لا تزال تضغط على الحراك السياسي في البلاد. هذا العام هو عام الانتخابات العامة، التي يحاول حزب المحافظين الحاكم تأجيلها إلى أقصى ما يسمح به الدستور، من أجل استعادة ما يمكن من شعبية فقدها خلال الأعوام القليلة الماضية، ولا سيما في الفترة التي أتت فيها إلى الحكم ليز تراس التي كانت الأقصر على الإطلاق في تاريخ البلاد، إلى جانب طبعا عدد من المصاعب التي يمر بها الحزب الحاكم، والتجاذبات المتضاربة بقوة. في الأشهر الماضية خسر المحافظون عددا من دوائرهم في انتخابات فرعية أعطت مؤشرات لما يمكن أن تكون عليه نتائج الانتخابات العامة قبل نهاية العام الجاري.
رئيس الوزراء ريشي سوناك، يعرف بالطبع المصاعب التي تمر بها حكومته وحزبه، وحاول كما هو متوقع أن يقدم آخر ميزانية عامة له، بما يضمن بعض المكاسب السياسية، خصوصا تلك الآتية لتخفيف ضغوط الضرائب. لكن هذا لم يحدث في هذه الميزانية، باستثناء تخفيضات في مساهمات الموظفين في الضمان الاجتماعي. فخفض الضرائب بالمطلق يتطلب تمويلا مباشرا ليس متوافرا في هذا الوقت، والجميع سيبقى يتذكر كيف انتهت حكومة تراس في 44 يوما لأنها فعلت ذلك، بحجة حرصها على تحقيق النمو. في الاقتصادات المتقدمة، لا يمكن أن تتخلى عن نسبة من مداخيل الضرائب، إذا لم تكن لديك مصادر أخرى بديلة، ويجب أن تكون هذه المصادر بعيدة عن سوق الاقتراض، خصوصا بعد أن بلغت الديون الحكومية البريطانية ما يوازي تقريبا الناتج المحلي الإجمالي.
استهدف وزير المالية جيرمي هانت الذي أتى في عملية إنقاذ للحكومة بعد "هزة ليز تراس"، الاستثمار. وهذا أمر طبيعي في كل الأوقات، ووعد بإعفاءات للشركات تصل إلى 25 %. لكن المساحة الزمنية من الآن وحتى الانتخابات لا تكفي في الواقع لظهور نتائج مؤثرة في الساحة. في الوقت الذي خفضت الحكومة توقعات النمو إلى 0.8 % هذا العام، على أن يصل إلى 1.9 % في العام المقبل. وهذا أيضا لا ضمانات قوية له، مع عدم انتهاء "المعركة" ضد التضخم الذي أربك المشهد العام، كما حدث في الساحة العالمية عموما، فأسعار المستهلكين لا تزال تقف عند 4.6 %، وهي الأعلى مقارنة بمستوياتها في البلدان المتقدمة. مخططات ما ورد في الميزانية العامة "تشجيع العمل الجاد" ستكون مهمة للغاية على المدى المتوسط وليس القصير، وهذا أيضا لن يسهم كثيرا في ترميم الصورة الانتخابية لحزب يحكم بمفرده من  2015، بعد أن حكم بصورة ائتلافية لمدة خمسة أعوام، والمشكلة، أن حزب المحافظين الذي يعرف بأنه "حزب الضرائب المنخفضة"، نمت هذه الضرائب في عهده إلى مستويات تاريخية، الأمر الذي أربك الصورة تماما، في أكثر الأوقات حساسية ليس فقط لمصير الأحزاب البريطانية، بل بالنسبة أيضا إلى إخراج الاقتصاد الوطني من حالة التأرجح بين الركود والنمو الذي لا يذكر. وإذا كانت هذه الميزانية "غير انتخابية"، إلا أنها بحق تتسم بالمسؤولية. الأشهر المتبقية من هذا العام، لن تشهد تقلبات سياسية على الساحة الشعبية كثيرة، فقد أظهرت الاستطلاعات مع الانتخابات الفرعية المتعددة التي جرت في الفترة السابقة، توجها واضحا للرأي العام نحو التغيير، وهذا ما يعزز موقع حزب العمال الذي مر هو أيضا بفترة تقلبات خطيرة قبل أن يستقر بصورة أكثر متانة من تلك التي يظهر عليها المحافظون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي