توطين الوظائف في عولمة مضطربة
"وفرت وظائف للأمريكيين أكثر من أي رئيس أمريكي"
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة
في ظل تشتت الاقتصاد العالمي منذ مطلع العقد الحالي، ومؤشرات هذا التشتت في الأعوام الأخيرة من العقد الماضي، تحولت المفاهيم الخاصة بالعولمة حتى عند الحكومات التي دعمت العولمة عامة، بل شجعت على اعتمادها منهجا اقتصاديا عالميا لكل الدول بصرف النظر عن أوزانها الاقتصادية ومكانتها المؤثرة في الساحة الدولية. ومع تفاقم التشتت المشار إليه، بما في ذلك الاضطرابات الكبيرة والطويلة في سلاسل التوريد، وارتفاع حدة الصراعات الجيوسياسية، التي بلغت في مخاطرها أعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية، وزيادة التوجهات الحمائية المختلفة القوية منها أو الجانبية، كان لا بد من إعادة النظر في مفهوم العمولة من جهة الشركات والتوظيف خصوصا، حتى إن بعض الحكومات الغربية باتت "تفتخر" بما تحققه من خلال المعارك التجارية، التي وقعت حتى بين الحلفاء التقليديين أنفسهم.
الذي ينظر إلى الخريطة الاقتصادية الأمريكية الراهنة، لا يرى فروقا بين إدارتي الرئيسين جو بايدن، وسلفه دونالد ترمب، تحديدا من جهة الرؤى الخاصة بتوطين الوظائف، مع اختلاف تقليدي بالطبع بينهما يتركز في "تشدد" الثاني في التعاطي مع هذه المسألة، إلى درجة أنه نال من كل المميزات الخاصة بعلاقات بلاده مع الحلفاء، ودفع الأول لنفس السياسة بطرق مرنة لكنها ليست ضعيفة. بايدن لم يوفر فرصة إلا وطالب بها الشركات الأمريكية الكبرى التي تعمل في الخارج أو تفتح لها فروعت رئيسة حول العالم، بالعودة إلى "الوطن"، مع تطمينات تشريعية بل دعم للمؤسسات التي تعمل في مجالات حساسة أو استراتيجية، بما في ذلك تلك المختصة في صناعة أشباه الموصلات. أما ترمب، فنحن نذكر أنه في آخر أيام وجوده في البيت الأبيض، هدد هذه الشركات بعقوبات إذا لم تسرع بنقل عملياتها إلى الأراضي الأمريكية، والدفع بتوطين الوظائف.
وبعيدا عن هذه المقارنات، يمكن القول: إن إدارة الرئيس بايدن حققت بالفعل نجاحات في إعادة توطين الوظائف، لا سيما في القطاع الصناعي، الذي يُنظر إليه بالطبع كميدان استراتيجي في البلاد. واللافت في هذا التوجه، أن الرئيس الأمريكي استهدف في خطة إعادة التوطين، وظائف مصانع الطبقة المتوسطة، من خلال حوافز حكومية تدعم الصناعات الاستراتيجية، حتى إنه عد صناعة أشباه الموصلات "الرقائق" بمنزلة نشاط إنتاجي يدخل مباشرة في نطاق الأمن القومي الأمريكي. والخطة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تشمل بصورة أساسية إعانات دعم بمليارات الدولارات للاستثمارات في المصانع الجديدة، التي توفر مزيدا من الوظائف للأمريكيين فقط، وتختص في التصنيع الاستراتيجي. ويبدو واضحا أن المشرعين الأمريكيين باتوا يعتقدون بضرورة ممارسة ما يمكن توصيفه "بالحمائية الوظيفية"، من ناحية تشغيلية اجتماعية بالطبع، ومن جهة البعد الاستراتيجي.
التوجه الأمريكي هو الأقوى والأسرع في هذا الشأن مقارنة بالتوجهات المشابهة على الساحة الأوروبية مثلا لكن الأوروبيين بدأوا بالفعل يستشعرون ضرورة المزج بين توفير الوظائف المحلية، وضمان بقاء تلك التي تتسم بالبعد الاستراتيجي بأيدي مواطني كل بلد في القارة العجوز. وفي كل الأحوال، تبقى الخطة التي يعتمدها بايدن الأكبر، من جهة نجاحه في الحصول على تأييد الكونجرس لتوفير مزيد من أموال الدعم، لخلق فرص العمل للأمريكيين، ولتوطين الوظائف الحساسة. فالتنافس الدولي في ميدان المنتجات المحورية يزداد شراسة، حتى إن وزارتي الدفاع والتجارة الأمريكيتين، لم توقفا الضغط المتزايد على الشركات الأمريكية لتقليص أو إنهاء التصنيع في الخارج، وفي الصين خصوصا. فالمسألة الأهم ليست ضمان سلاسل التوريد، بل إعادة توجهها بما يتناسب مع التحولات على الساحة الدولية، التي أفرزت خلافات حتى بين الحلفاء التاريخيين.