اليوم العالمي للتنوع الثقافي ودور المعرفة
لا شك أن مشهد التنوع الثقافي واختلاف خصائص الحضارات الإنسانية، قد شغل الأجيال عبر الزمن. وتَمثل ذلك في صراعات أهدرت كثيراً من إمكانات الإنسان والطبيعة من حوله، كما تَمثل أيضاً في توافقات عادلة أدت إلى التعايش السلمي، وتبادل المصالح، والعمل المُشترك، ودفع عجلة التنمية إلى الأمام، لما فيه مصلحة أصحاب هذه التوافقات. وفي إطار هذا المشهد، نجد من يؤكد على صراع الحضارات، كما فعل الأكاديمي الأمريكي صموئيل هنتنجتون في كتابه حول الموضوع الصادر 1996. كما أننا نجد أيضاً من يرى ضرورة الحوار بين الحضارات والعمل المشترك على تحقيق التنمية، كما تحاول منظمة الأمم المتحدة أن تفعل، بالتعاون مع منظمات أخرى حول العالم. فقد أعلنت المنظمة 2002، يوم 21 مايو من كل عام، يوماً عالمياً للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية.
قسّم هنتنجتون حضارات العالم إلى تسع حضارات رئيسة، إضافة إلى حضارات أخرى. وحدد للحضارات الرئيسة أربعة مستويات لحدة الصراع الكامن بين كل منها والحضارات الأخرى. وراوحت هذه الحدة بين لا صراع، وصراع كامن بسخونة عالية. لكن منظمة الأمم المتحدة، كمنظمة دولية تتطلع إلى السلام والتنمية، ترفض هذا الصراع، من حيث المبدأ، وتعمل على استبداله بالحوار والتعاون والتنمية، من أجل مصلحة الجميع. ولها، حول هذا الموضوع، خمس أفكار مُهمة تُعرف "بالقيم العالمية، يُفترض مراعاتها والالتزام بها من قبل الجميع. وتشمل هذه الأفكار: تحقيق السلام، والحرية، والتقدم الاجتماعي، والمُساواة في الحقوق، وحفظ كرامة الإنسان.
تمثل الثقافة، كما يُعرفها عالم الاجتماع إدوارد تيلور "الإطار المعقد الذي يتضمن الموروث المعرفي، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، وما يرتبط بذلك من عادات ومُعطيات يكتسبها الإنسان من المجتمع الذي يعيش فيه". وتعطي الثقافة الأساس المحرك للشعوب في بناء حضاراتها. وتختلف الثقافات تبعاً للمناطق الجغرافية، وقد تختلف بدرجات مُتباينة ضمن المنطقة الواحدة تبعاً لعوامل مُتعددة. وقد تتأثر الثقافات أيضاً بأفكار وأيديولوجيات تنتشر بين الناس في مختلف أنحاء العالم فتزيد من عوامل التنوع الثقافي من جهة، تبعاً للتغيرات التي تحدثها، ربما ضمن الثقافة الواحدة.
يحتاج الإنسان، أنى كانت ثقافته، إلى حياة آمنة، تستوعب إمكاناته ونشاطاته، وتتيح له الفرصة لتحقيق طموحاته في العمل والإنجاز والإسهام في التنمية، وتعزيز استدامتها. ولا شك أن مثل ذلك لا يتحقق عبر صراعات التنوع الثقافي، إنما يتحقق من خلال تفهم هذا التنوع، واحترام الآخرين، وعدم تحدي مشاعرهم، فضلاً عن السعي إلى تفعيل الحوار، والتعاون معهم، والالتزام بالأخلاقيات الإنسانية، والقيم العالمية سابقة الذكر.
وتزداد أهمية هذا الأمر في الوقت الحاضر، حيث بات العالم، عبر التطور التقني، قرية صغيرة، على أبنائها السعي إلى إعمارها بالحكمة، وليس العمل على تدميرها بالحماقة. ولعل الوسيلة إلى ذلك هي ما يمكن أن ندعوه "بثقافة المعرفة" التي يمكن القول عنها "إنها الثقافة المضافة إلى جميع الثقافات، تحترمها، ولا تتصارع معها، وتتوخى الحكمة في اكتساب المعرفة المفيدة للجميع في الحياة والتنمية، وتسعى إلى توظيفها في الحوار والعلاقات العلمية والمهنية والتجارية، وربما في الصداقات الاجتماعية أيضاً، لما فيه مصلحة الجميع".
يجب أن تكون المعرفة في هذا العصر وسيلة جامعة، تحقق التفاهم والتعاون من موقع المساواة، مهما كانت اختلافات التنوع الثقافي. وهذا قائم فعلاً في عالم التعليم والبحث العلمي، وفي عالم العمل المهني والتجارة. ومن يرصد مُؤلفي البحوث العلمية المنشورة قي شتى المجالات، على سبيل المثال، سيجد أنهم في كثير من هذه البحوث ينتمون إلى ثقافات مختلفة. فهذه الثقافات لم تفرقهم، لأن العمل المعرفي كان جامعا لهم. ويضاف إلى ذلك أن ما نجده من تجارة وتبادل السلع حول العالم يرتكز إلى إدراك معرفي بضرورة البحث عما هو في مصلحة الإنسان، وتوجهاته نحو التنمية. والأمل أن يتحقق مثل ذلك في جميع المجالات الأخرى أيضاً.
ولعل هُناك مُلاحظة أخيرة تستحق الذكر في إطار التنوع الثقافي. هي أن هذا التنوع يستطيع، في بيئة الحوار والتعاون، تقديم عطاء أفضل من العطاء أحادي الثقافة، لأن هناك، كما يُلاحظ، تميزاً ما في العطاء، في مجال من المجالات، يكمن في كُل ثقافة. فمثل هذا التميز في تنوع الثقافات، يمكن أن يُعزز إيجابيات التعاون، والإسهام المُشترك في التنمية، وتفعيل استدامتها.