البنوك المركزية وانحيازها التضخمي القديم ـ الجديد
بالاستماع إلى محافظي البنوك المركزية، قد يتصور المرء أن النوبة الأخيرة من التضخم المرتفع كانت مجرد خطأ مبرر في التنبؤ في مرحلة ما بعد الجائحة، ارتُكِب في ظل حالة من عدم اليقين الشديد. لكن رغم أن هذا السرد سائد الآن في الأسواق والصحافة المالية، فإنه يفترض مستوى من استقلال البنوك المركزية غير واقعي ببساطة في البيئة الاقتصادية والسياسية المتقلبة اليوم.
هذا لا يعني أن القائمين على البنوك المركزية كأفراد غير جديرين بالثقة. المشكلة هي أن أغلب البنوك المركزية ليست مستقلة كما يعتقد كثيرون. ففي بيئة عالمية تتسم بالاستقطاب السياسي، وأعباء الديون الحكومية المرهقة، والتوترات الجيوسياسية، وتراجع العولمة، أصبح من غير الممكن أن تكون استقلالية البنوك المركزية مطلقة.
الواقع أن خبراء الاقتصاد الذين يؤيدون استهداف البنوك المركزية للتضخم ويرون أن الترتيبات القائمة مقدسة يفشلون في إدراك حقيقة مفادها أن الاعتقاد بأن استقلال البنوك المركزية من الممكن أن يساعد في السيطرة على التضخم، لم يتجاوز عمره أربعة عقود من الزمن.
الواقع أن جائحة كوفيد - 19 أعادت قوى سياسية واقتصادية كانت في سبات طويل إلى الصدارة من جديد. وكما ذكرت في بحث حديث شاركت في تأليفه حسن أفروزي، ومارينا حلاق، وبيير يارد، فمن غير المرجح أن تختفي هذه القوى في أي وقت قريب. وفي حين اتسمت فترة ما بعد الجائحة باشتداد حالة عدم اليقين، الذي يجعل من الصعب التنبؤ باتجاهات الاقتصاد الكلي، فإن هذا على وجه التحديد هو الوقت عندما تكون البنوك المركزية أكثر ميلا إلى المجازفة بارتفاع معدلات التضخم بدلا من الركود الشامل.
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية وتباطؤ النمو العالمي، من المرجح أن تظل حالة عدم اليقين الاقتصادي مرتفعة. يرجع هذا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن نماذج التنبؤ "الكينزية الجديدة" التي تتبناها البنوك المركزية تعتمد في الأساس على الاستقراء.
من المؤكد أن الزيادات التضخمية لا تحدث كل عام. لكن نوبة أخرى من التضخم قد تحدث في وقت أقرب مما تتوقعه الأسواق. وفي مواجهة حالة من عدم اليقين الاقتصادي، قد لا تسعى البنوك المركزية إلى رفع معدلات التضخم، لكنها تعمل في الأرجح على تعديل سياسات أسعار الفائدة على النحو الذي يجعل مثل هذه النتيجة أكثر ترجيحا من الركود العميق أو الأزمة المالية.
على الرغم من كونه معروفا بين خبراء الاقتصاد، فإن الأسواق المالية لم تدرك هذا الانحياز التضخمي، ربما لأن رسائل البنوك المركزية أصبحت فعالة بدرجة استثنائية على مدار العقود القليلة الأخيرة. ويدرك القائمون على البنوك المركزية أن أسعار الفائدة، بمجرد تشكك الأسواق في نواياهم، ستعكس بسرعة توقعات التضخم المتصاعدة.
في حين تستطيع الحكومات أن تتخذ عدة خطوات لتعزيز استقلال البنوك المركزية، فإن مثل هذه التدابير غير مرجحة في البيئة الشعبوية اليوم. فبدلا من ضمان بقاء التضخم ضمن النطاق المستهدف، تتعرض البنوك المركزية لضغوط متزايدة لحملها على التركيز على قضايا تفتقر إلى الأدوات، أو الخبرة، أو الشرعية السياسية اللازمة لمعالجتها، مثل التفاوت بين الناس، وتغير المناخ، والعدالة الاجتماعية.
لا شك أن القائمين على البنوك المركزية يسعون إلى تحقيق أهداف التضخم، لكن يتعين عليهم دائما أن يتوخوا الحذر من سادتهم السياسيين. للحفاظ على استقلالها في ظل الضغوط المتزايدة، تحتاج البنوك المركزية إلى التحلي بالمرونة وتقديم التنازلات في بعض الأحيان، وهو ما قد يؤدي إلى تكرار الارتفاع التضخمي الذي شهدناه بعد الجائحة في غضون الأعوام الـ10 المقبلة. وبالتالي، ينبغي للمستثمرين الواقعيين أن يفهموا أنه حتى لو تمكنت البنوك المركزية من كبح جماح التضخم المرتفع الآن، فمن المحتم أن يعود في وقت أقرب مما تتنبأ به أغلب التوقعات حاليا.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org