الابتكار في المؤسسات .. معايير دولية
"الابتكار أو الاندثار" كان عنوان تقرير مؤسسة الفكر العربي العاشر للتنمية الثقافيّة الصادر 2018. وتتمتع هذه المؤسسة بمكانة فكرية متميزة، حيث يضم مجلس أمنائها شخصيات من شتى أرجاء الوطن العربي، ويرأسها الأمير خالد الفيصل. ولعل في اختيار هذا العنوان لأحد تقاريرها دعوة ملحة، بلغة الإنذار، إلى مزيد من الاهتمام بموضوع الابتكار. والسبب بالتأكيد هو الدور الحيوي للابتكار في هذا العصر كمصدر للعطاء، والاستجابة لمتطلبات الحياة، والتوجه نحو التنمية، ليس فقط ضمن إطار زمني محدود، وإنما بالتجدد المستمر والاستدامة.
تحمل كلمة "الابتكار"، كما هو معروف ومتداول، معنى المعرفة الحية، القابلة للتطبيق، وتقديم منتجات تتمثل في سلع، وخدمات، وأساليب عمل وإجراءات تحمل قيمة تتميز بالفاعلية والكفاءة، والقدرة على المنافسة والانتشار في السوق المستهدف. ويؤدي الاستثمار المتجدد في مثل ذلك إلى توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، وتحقيق التنمية، وتعزيز استدامتها. ويمكن اختصار صفات معطيات الابتكار الأساسية المنشودة بالكلمات الأربعة التالية: "الجِدة" في الفكرة، و"الجودة" في المنتج، و"الجدوى" في التكاليف، و"الجاذبية" في السوق.
طرحنا في مقال سابق موضوع المنظومة الوطنية للابتكار، وذكرنا أن بنية هذه المنظومة يمكن أن تتكون من مجموعة من منظومات أصغر ترتبط على أرض الواقع، بـ3 مستويات رئيسة. أولها مستوى إعداد المبتكر، ويقترن بالثقافة والتعليم ورعاية الموهوبين، ثم مستوى تفعيل توليد المعرفة والاكتشاف والإبداع، ويرتبط أساسا بالجامعات ومراكز البحوث؛ وأخيرا مستوى الاستثمار وتوظيف المعرفة والاستفادة منها، ويتعلق بالشركات والمؤسسات. وقد تلا ذلك المقال مقالات تهتم بالمستويين الأول والثاني، ونأتي إلى هذا المقال الذي يتوج ما سبق بالحديث عن المستوى الثالث المعني بالابتكار في المؤسسات، حيث الوصول إلى السوق، وجني المعطيات الصانعة للتنمية.
يشغل الابتكار -ولا سيما على مستوى المؤسسات- بال العالم بأسره لسببين رئيسين. يرى أولهما أن هذا الابتكار هو المقترن بالسوق، والمسؤول عن الاستجابة لمتطلباته، وربما عن تحفيزه لمتطلبات كامنة أخرى وجذبه إليها أيضا، وذلك من أجل نجاح المؤسسة التي يرتبط بها، وإسهامها في تحقيق التنمية المنشودة. أما السبب الثاني، فينظر إلى هذا الابتكار من زاوية أخرى تتكامل مع الزاوية الأولى، حيث يرى أن جذور هذا الابتكار، وكذلك شؤون مستقبله، ترتبط مع منظومات الابتكار على المستويين الأول والثاني، أي مع منظومات إعداد المبتكرين، ومنظومات البحث العلمي والاكتشاف والإبداع. وعلى هذا الأساس، يبرز دور هذا الابتكار نابعاً من تكامل جهود منظومات المستويات الثلاثة.
يتمثل اهتمام العالم بالابتكار في المؤسسات، بتوجه هيئات عالمية ومحلية، متخصصة بإصدار مواصفات تسعى إلى وضع معايير، غايتها إدارة نشاطات الابتكار فيها، من أجل تقديم معطيات مبتكرة أفضل، تقود إلى تعزيز إسهامها في التنمية. وقد كان للمنظمة الأوربية للمواصفات المعيارية CEN دور رائد في هذا المجال، حيث بدأت بإصدار مثل هذه المواصفات عام 2013، في أجزاء متخصصة تشمل الجوانب المختلفة للإدارة المطلوبة.
ولعل الحدث الأهم، في إطار ما سبق، هو قيام المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية ISO بتقديم إصدارات مماثلة، ابتداء من 2019. وتنطلق أهمية هذا الحدث من حقيقة أن المنظمة الدولية أوسع تأثيرا في المؤسسات حول العالم، من المنظمة الأوربية، أو أي منظمة متخصصة أخرى.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أمرين، أولهما أن المنظمة الدولية لم تستكمل بعد إصدار جميع أجزاء إدارة الابتكار، لكنها في طريقها إلى ذلك، وهو ما يجب أن نترقبه. أما الأمر الثاني فهو حقيقة أن التطور المتسارع للتقنية والخبرات التي تتراكم في مجالاتها، تجعل معايير إدارة الابتكار متطورة باستمرار، وتحتاج إلى تحديث دوري، تقوم المنظمة الدولية بمثله في إصداراتها في الموضوعات المختلفة الأخرى. أي أن ما نراه اليوم من مواصفات معيارية، قد يخضع للتغيير غدا، وهو ما يجب متابعته.
يبرز أحد إصدارات المنظمة الدولية حول إدارة الابتكار في المؤسسات، وهو الإصدار الذي يحمل الرمز ISO 56003، موضوع "الشراكة في الابتكار" مع جهات أخرى، كمراكز البحوث والجامعات. ويضع في هذا المجال إطارا عاما للشراكة، يتضمن جوانب الحاجة إلى شركاء، وكيفية اختيارهم، والعمل المشترك معهم. ومن أمثلة موضوعات إصدارات إدارة الابتكار الدولية الأخرى، موضوع "إدارة الأفكار، وموضوع إدارة الذكاء الإستراتيجي، وموضوع حقوق الملكية الفكرية، وغير ذلك".
تمثل الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة في المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية ISO، وتهتم بما تتلقاه منها من إصدارات، بما في ذلك إصدارات إدارة الابتكار، فضلا عما تقدمه هي أيضا من إصدارات أخرى خاصة بها. والأمل أن يتمتع موضوع معايير إدارة الابتكار في المؤسسات بالأولوية الملحة المطلوبة لديها، وأن يكون ذلك في إطار التكامل مع منظومات الابتكار في المستويات الأخرى سابقة الذكر.