من الرئيس فرانكلين روزفلت إلى سوالف بزنس.. البودكاست سرد صوتي يجذب المستمعين
تعد مجرد غرفة تقع في الطابق الأول من البيت الأبيض، ومخصصة لاستقبال الوفود الدبلوماسية، لكن في ساعة بعينها تتحول إلى استوديو صغير، حيث يدخل المختصون الفنيون بمعدات احترافية، ويستعد مهندسي الصوت لضبط تردد موجات الأثير، ريثما يراجع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت الـ"سكريبت" لآخر مرة، قبل أن يقدم حديث جديد من أحاديثه التي أطلقها من تلك الغرفة عبر الإذاعة وحملت اسم "دردشات قرب المدفأة"، وفيها ناقش سياساته مع الشعب الأمريكي بين 1933 إلى 1944 ميلاديا، حتى بات أشهر مذيع راديو يسكن شارع بنسلفانيا شمال العاصمة واشنطن حيث مقر حكمه.
اختيار روزفلت للراديو في وقت كانت الصحف في أوج شهرتها، حدث لم يدر في خُلد غولييلمو ماركوني الذي يعزو إليه اختراع الراديو في 1895، لكن الرئيس الأمريكي الذي جرّب تلك الوسيلة أثناء حملته الرئاسية أدرك أن لها مكانة خاصة لدى بعض الناس، إذ تسمح بخلق مناخ حميمي مع المستمع أكثر من أي وسيلة أخرى بحسب دراسة لمنظمة اليونسكو، وبعد نحو قرن من الزمان، لم يُدر في خُلد "روزفلت" نفسه أن أحاديثه يمكن تصنيفها كأول "بودكاست" في التاريخ.
قبل الوصول إلى المصطلح الأخير، مرّت الإذاعة بكثير من التغيرات على مدار القرن الـ20، مستفيدة من كل تطور تكنولوجي، حتى كانت الثمانينيات حين ظهر لأول مرة مفهوم "التدوين الصوتي" الذي سرعان ما اندثر نتيجة عدم وجود إمكانات، لكن في أكتوبر 2001 أطلقت شركة "أبل" أول مشغل موسيقي حمل اسم "آيبود"، وبعد 3 سنوات تمكن آدم كاري المذيع السابق بقناة "إم تي في" الأمريكية بالتعاون مع مطور البرامج ديف وينر من تطوير برنامج يُعرف بـ"آيبودر" ما أتاح للأشخاص حفظ المدونات الصوتية.
بتلك التوليفة، وفي 2004 ظهر أول منتج صوتي يمكن نشره على الإنترنت، وتحميله في أي وقت، وهو ما أسماه هامر سلاي، الصحفي البريطاني بجريدة الغارديان "بودكاست"، وهو مصطلح يدمج بين "آيبود" المشغل الموسيقي و"برودكاست" أي البث باللغة الإنجليزية، ومنذ تلك اللحظة ظهر المصطلح الذي بحث عنه أكثر من 100 ألف شخص عبر "جوجل" في نفس العام، مع وجود نحو 700 ألف بودكاست في متجر آيتونز التابع للعملاق آبل.
تشير الأرقام إلى تطور كبير في صناعة البودكاست خلال العقدين الماضيين، وأسهم في ذلك جيل الألفية الثانية الذي فضّل تلك الوسيلة عن غيرها، وانعكس ذلك على الشركات التي أنفقت 497 مليون دولار على إعلانات البودكاست في 2018، وفي العام التالي 2019 كانت الأرباح فقط 479 مليون دولار، وفي 2023 وصل عدد برامج البودكاست عالميا إلى أكثر من 4 ملايين يمثلون سوق متوقع أن تبلغ قيمته 17 مليار دولار بحلول 2030.
عربيا، سجّل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 300 بودكاست في 2018 ارتفع إلى 464 في 2019 بنمو وصل 60 %، وكانت رأس الحربة هي السعودية، ويعود ذلك لعدة أسباب، أولها استخدام السعوديين للإنترنت الذي بلغ 99 % في 2023، بجانب أن الأغلبية الكبرى من فئة الشباب يفضّلون تلك الوسيلة، وهو ما أسهم أن يصل مستمعي البودكاست من السعوديين إلى 5.1 مليون مستمع عام 2020 بحسب جامعة "نورث ويسترن" الأمريكية وهو رقم ارتفع كثيرا خلال السنوات الماضية، خاصة بعد تطور أشكال "البودكاست" واستغلاله للتصوير المرئي، بجانب اقتحامه للمنصات العالمية.
واحد من ملايين السعوديين الذين شغفوا بالوسيط الجديد، كان عبد الرحمن أبو مالح، مهندس البرمجيات الذي استغل دراسته وأرضى شغفه الإعلامي، بتأسيس شركة "ثمانية" في 2016 ومن خلالها أطلق "بودكاست فنجان"، وخلال 5 سنوات استطاعت الشركة أن تكون ضمن الأكثر ريادة في محتوى البودكاست العربي بتحقيق 4.6 مليون متابعة شهريا، و إنتاج أكثر من 90 فيلما وثائقيا قصيرا، ما أهّلها لحصد جائزتين من وزارة الإعلام السعودية، حتى كانت النقلة الكُبرى في 2021 حين استحوذت المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام على 51 % من أسهمها.
تلك النقلة أدت إلى طفرة في برامج "ثمانية" التي حققت شهرة كبيرة، وعلى رأسهم بودكاست "سوالف بزنس"، الذي يقدّمه الإعلامي والمتخصص في الإدارة مشهور الدبيان، الذي تفرغ لمشاريع كثيرة اكتسب من خلالها خبرة مكّنته أن يقدم "سوالف بزنس" الذي يعد في الوقت الراهن "بودكاست متخصص" لإدارة الأعمال، ومن خلال البودكاست استضاف عشرات من رجال الأعمال ومؤسسي الشركات الناشئة، ليكشفوا عن أسرار النجاح وطرق التغلب على المعوقات التي واجهتهم.
ديكور بسيط، إضاءة مُريحة للعين، حديث أقرب إلى أحاديث الأصدقاء، كلها عوامل ساعدت في نجاح "سوالف بزنس" الذي تتجاوز حلقاته 23 مليون مشاهدة على منصة واحدة مثل "يوتيوب"، لكن الأهم كما يتضح من تعليقات المتابعين، هو مناقشة قصص رواد الأعمال بطرق سهلة تصل إلى الجميع، بجانب النصائح التي يقدمها "الدبيان" في حلقات مخصصة، مثل كيفية كتابة عقود العمل ومدى جدوى وجود المشاهير في الإعلانات وحقوق الملكية الفكرية، وهي نصائح يدفع الباحث عنها كثير من الأموال، قبل أن يقدّمها "سوالف بزنس" مجانا.
يقول الإعلامي السعودي رياض الودعان "البودكاست في السعودية أصبح ثقافة وسلوك يومي"، حقيقة أكدها إحصاء "ماركتيرز" الذي أوضح أن برامج بودكاست السفر أدت لارتفاع الإقبال من السعوديين على السفر بنسبة 19 %، وكذلك برامج الأطعمة والمشروبات فتسببت في زيادة الإقبال بنسبة 17 % عليها، ويدلل على ذلك الأسئلة التي يتلقاها "الدبيان" في كل حلقة التي توضح أن "سوالف بزنس" أصبحت منصة استشارية موثوقة، لتعيد إلى الأذهان بودكاست "ماندجر تولز" الذي قدمه الصديقان مارك هورسمان ومايك أوزان لأول مرة في 26 يونيو 2005 لتقديم نصائح في الإدارة والاقتصاد وخلال فترة وجيزة أضحت منصة استشارية لـ100 شركة حول العالم.
في المقابل لا تنقص الخبرة المقدم مشهور الدبيان وهو يتسلح بكلمة سر نجاحه التي كشف عنها بقوله:" أنا لا يهمني المجد الشخصي للضيف ولا كيف بدأ، ولكن ما يهمني كيف ذهب إلى أول عميل وعقد أول صفقة".
وهذا بالضبط ما يفعله حينما ينسج علاقة وثيقة إلى حد كبير مع المستمعين حينما ينصتوا إلى قصة بدر العرجاني ومنافسة شركته كيان لكل من كريم وأوبر، ومتجر عبدالرحمن العليان في إنستجرام الذي تحول لشركة نايس ون لبيع العطور والمكياج، وأسرار التسويق ولماذا تفشل إعلانات المشاهير مع عبدالمجيد الفوزان، بجانب مبيعات تتجاوز 200 مليون ريال للمناشف والأرواب مع أحمد العويد في ريفي، وآخرها مقابلة الرئيس التنفيذي محمد الجلال وهو يروي قصة تحول شركة إكسترا من الإلكترونيات إلى التمويل.