الذكاء الاصطناعي لم يبلغ حد استبدال قادة السياسات المالية

يتخوف حكام البنوك المركزية من تداعيات خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة

لا يولد حكام البنوك المركزية وقد أصيبوا بالقلق المزمن، لكن سرعان ما يكتسبون هذه الصفة. وهم اليوم يعيشون في خشية من تداعيات الذكاء الاصطناعي، ويقضون جلّ وقتهم في التفكير بما قد يتسبب به من فوضى في الأسعار والوظائف، وبالضرر الذي سيلحقه بأمن التعاملات المصرفية.
تخيلوا مثلاً لو أن الأزمة المالية العالمية في 2008 مع كل ما حملته من ويلات، ترافقت مع آلة خارجة عن السيطرة أججت انهيار الأسواق.
قال إيدي يو من سلطة النقد في هونج كونج في مؤتمر عُقد قبل فترة وجيزة، إن ما ينتظرنا لن يكون سيناريو نهاية العالم بحيث تخرج الآلات عن السيطرة فتدمّر الكوكب، لكنه أقرّ أن أخطار كثيرة ستنشأ عن الذكاء الاصطناعي.
وفيما حذّر نظيره في سنغافورة من مخاطر التزوير والهجمات السيبرانية، أعرب مسؤولون أمريكيون وبريطانيون عن خشيتهم من خطر استخدام الخوارزميات للحد من منح القروض للأقليات. برغم اعتراف مسؤولي البنوك المركزية بفوائد التقدم التقني السريع على الاقتصاد بشكل عام، ما يزال القلق يتملك معظمهم.

لا خطر على حكام البنوك المركزية

ولكن إذا كان هناك ما يستدعي قلق سادة السياسات المالية، فهو تقلص سلطاتهم. صحيح أن عدد الاقتصاديين حملة درجات الدكتوراه العاملين في المصارف المركزية سيقل، إذ إن الخوارزميات الجديدة، التي تدقق بالوقت الفعلي في البيانات المتنوعة من مبيعات السيارات إلى عدد الزيارات إلى المراكز التجارية، ستدفع المحللين للتفكير في التحولات التي ستطرأ على وظائفهم، إلا أن ذلك لن يلغي دور الرجال والنساء الذي يحددون أسعار الفائدة، بل إن الذكاء الاصطناعي قد يزيدهم نفوذاً.
هذا ما كان أعلنه بنك التسويات الدولية، الذي قال إن حتى أبسط المهام، مثل تحديد كلفة الاقتراض، ستبقى على عاتق البشر لتحديدها. إن الكمبيوتر الخيالي خارق القوى (HAL) من فيلم (2001: A Space Odyssey) لا يهدد اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة ونظرائها حول العالم. قالت سيسيليا سكينغسلي، رئيسة مركز الابتكار في بنك التسويات الدولية في لقاء مع الصحفيين العام الماضي: "نحن ننظم أنفسنا ومجتمعاتنا، بطريقة نحب فيها أن نحمّل البشر المسؤولية... مثلاً، نغيّر السياسيين، وربما نغيّر حكام المصارف المركزية من وقت إلى آخر".

تأثير فوري في الأسعار

حتى أنها ربما تعمدت تلطيف تقييمها هذا، فلا شك أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي باول جيروم وزملاءه سيكتسبون مزيد من الأهمية. قال لارس كريستينسين، الأستاذ المساعد في كلية كوبنهاغن للأعمال إنه فيما يطوّر تجار التجزئة تطبيقات لمراقبة منافسيهم والسوق الأوسع عن كثب، فإن سعر الحليب في الدانمارك مثلاً قد يتقلّب خلال خطاب لباول، وحين ترفع "أوبك" إنتاج النفط أو تخفّضه، فإن ذلك ينعكس سريعاً على أسعار الوقود في المحطات على الطرقات. وتساءل كريستينسين، مؤسس شركة "بايس" (PAICE) الاستشارية المتخصصة بالذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، لماذا لا ينطبق الأمر نفسه على السلع الغذائية الأساسية؟
قال في مقابلة أجريتها معه: "في كثير من الدول مرتفعة الدخل، تتوفر بالفعل بطاقات تسعيرة إلكترونية.. يمكنك ببساطة ربطها بإحدى الخوارزميات. لا أعتقد أن المثل الذي أعطيته عن الوقود في المتجر ومتابعة سعر الحليب وهو يتغير على شاشة فيما يعلن باول عن أسعار الفائدة بعيد عن الواقع. قد ننتظر لأسباب عملية حتى إغلاق المتجر لنغير السعر، أو نعتمد آلية تفرض عدم زيادة السعر طالما أن العميل لا يزال في المتجر، لكن المفهوم قائم.
".
تحليل خطابات الماضي

يمكن أيضاً استرجاع تصريحات تعود إلى جيل سبق لاستخلاص الإشارات في سوق السندات، وذلك من خلال تحليل تلك التصريحات بواسطة نماذج لغوية تستند إلى "تشات جي بي تي".
مثلاً، أعدّ "جيه بي مورغان تشيس" برنامجاً يستخدم خطابات تعود إلى عقود مضت، من أجل التحقق من تطوّر إشارات السياسات المالية.
لاحظ الخبراء الاقتصاديون في المصرف أنه حين أظهر النموذج ارتفاعاً في القلق من التضخم لدى المتحدثين باسم الاحتياطي الفيدرالي بين الاجتماعات، جاءت نبرة البيان التالي الذي صدر عن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة أكثر تشدداً، والعكس صحيح.
إذن ما استُفيد من ذلك كإستراتيجية للتداول، فإن فرص تحقيق الربح ستكون وفيرة. بدأ "جيه بي مورغان" من تتبع الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا المركزي، وتوسّع لاحقاً ليشمل حالياً 10 بنوك مركزية كبرى في الدول المتطورة.
مع ذلك، المجال مفتوح دائماً للمسائل التفصيلية والآراء المدروسة. فأحياناً، لا تكون الإشارات واضحة بما يكفي. مثلاً كيف يمكن تفسير عبارة "لا يمكننا استبعاد أي شيء" التي يكررها حالياً بنك الاحتياطي الأسترالي. قد يكون صانع سياسات مخضرم في المركزي الألماني (بوندسبنك) أقلّ ميلاً لتبني سياسات ليّنة مقارنة بمسؤول في المركزي الفرنسي. يمكن أيضاً لحاكم المركزي الياباني كازو أويدا ألا يتكلف عناء التصريح، أمّا سلفه فكان يحب أن يفاجئ المستثمرين.

تكامل العقل البشري مع الذكاء الاصطناعي

يقدّم الذكاء الاصطناعي أداءه الأفضل حين يتكامل مع القرارات البشرية. وفي بعض المجالات، لا بديل عن الخبرة. في تركيا مثلاً، الآلات التي تساعد في الحد من التهرب الضريبي تقدّم خدمة عامة. مع ذلك، لا أحد يصنّف البلاد على أنها تمثل معياراً ذهبياً من حيث الأداء، فمعدلات التضخم مرتفعة إلى مستويات هائلة بلغت 72 %. إذن هناك حاجة لتقترن الموجات الإلكترونية، بالموجات الدماغية. إذن يُستبعد إلغاء مهام حكام البنوك المركزية.
تعهد الرئيس السابق دونالد ترمب أنه في حال فاز بالانتخابات الرئاسية هذا العام، فإنه لن يعيد تعيين باول رئيساً للاحتياطي الفيدرالي، في حين ليس من الواضح إذا ما كان باول يرغب أصلاً في تولي هذا المنصب لولاية ثالثة. ولكن الأكيد أن الكمبيوتر (HAL) لن يكون من بين المرشحين للمنصب... أقله هذه المرة.

خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي