كيف يقود الاقتصاد دفة الانتخابات الأوروبية؟

كشفت انتخابات البرلمان الأوروبية لعام 2024 عن تحول درامتيكي لم تشهده القارة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث شهدت صعودا قويا لكنه ليس مفاجئا لأحزاب أقصى اليمين في مقابل تراجع كبير للأحزاب الحاكمة في مختلف الدول وعلى رأسها فرنسا، التغير الكبير في ميزان القوى تجاه اليمين ينذر بتغيرات مقبلة في السياسة الأوروبية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، لكن في البداية دعونا نفسر أسباب ذلك الصعود، منذ جائحة كورونا دخلت القارة في نفق مظلم، حيث انكمش الاقتصاد وارتفعت مستويات الديون بوتيرة متسارعة بسبب الحاجة إلى مضاعفة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية وتنشيط الاقتصاد لمواجهة الإغلاق ومن ثم جاءت الأزمة الروسية - الأوكرانية وما تبعها من موجه تضخم كان سببها الأساسي الارتفاع في أسعار الطاقة مع توقف إمدادات الغاز الروسي الرخيص، الأمر الذي أثر بالسلب في القدرة الشرائية والمعيشة، فيما عانت القطاعات الإنتاجية بشدة بسبب تكاليف الاقتراض المرتفعة ونقص الطاقة وتباطؤ الطلب المحلي، الأمر الذي دفع كثيرا من الشركات للبحث عن وجهات جديدة خارج السوق الأوروبية.

البداية من الاقتصاد، فوفقا لبيانات صندوق النقد الدولي فقد سجل اقتصاد منطقة اليورو نموا بنحو 0.4 % خلال 2023 وهو معدل ضعيف مقارنة بمستويات النمو في الولايات المتحدة التي بلغت 2.5 %، بينما عانت كبرى اقتصادات المنطقة ركودا، حيث سجلت ألمانيا أكبر اقتصاد في القارة انكماشا بنسبة -0.3% خلال 2023، معدلات النمو الضعيفة كانت متأثرة بشكل أساسي بالانكماش في مستويات الطلب والإنفاق الاستهلاكي بجانب تباطؤ الصادرات المتأثر بتراجع الإنتاج، ومن أجل دفع عجلة الاقتصاد فتحتاج القارة إلى سياسات أكثر توسعية تقوم من خلالها الحكومات بزيادة مستويات الإنفاق وفي بعض الحالات خفض الضرائب وذلك ما تعارضه الأحزاب الحاكمة وذلك ما استغلته الأحزاب اليمينية، على سبيل المثال في فرنسا وعد حزب التجمع الوطني اليميني أن في حال فوزه بالانتخابات فسيقوم بخفض ضريبة القيمة المضافة على الوقود والطاقة بهدف تحسين مستويات المعيشة للمواطنين ودعم النشاط الاقتصادي.

بالوصول إلى العامل الاجتماعي، فقد عانت أوروبا انزلاقا ملحوظا في مستويات المعيشة أخيرا نتيجة لمعدلات التضخم المرتفعة التي ضربت القارة بعد الأزمة الروسية، حيث سجل التضخم في منطقة اليورو مستويات قياسية وصلت في أكتوبر 2022 إلى 10.6%، متأثرة بارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، القفزة الكبيرة في تكاليف المعيشة وتآكل القدرة الشرائية للأفراد مع عدم ملاءمة مستويات الأجور للتضخم المرتفع حيث دفع عديدا من العاملين، خاصة في قطاع الخدمات مثل القطارات والمطارات والموانئ للدخول في حالات إضراب عن العمل في عديد من دول القارة وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، وقد سعت أحزاب اليمين لاستغلال تلك الأزمات لتعزيز فرصها في الانتخابات، وبالعودة إلى حزب التجمع الوطني في فرنسا، حيث أعلن في برنامجه أنه سيقوم بإلغاء خطة الرئيس ماكرون التي تم بمقتضاها رفع سن التقاعد إلى 64 عاما مع عودته إلى 62 عاما، بجانب وعود بتعزيز الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية مثل الصحة، الأمر الذي أكسب تيار اليمين مزيدا من الشعبية مقابل تيارات الوسط واليسار.

العامل الثالث المهم في صعود اليمين هو التعامل مع القضايا الخارجية ويأتي على رأسها الهجرة والأزمة الروسية - الأوكرانية والحرب التجارية مع الصين والقضايا الأخرى مثل المناخ، حيث أدى التخبط الأوروبي في التعامل مع تلك القضايا وبالأخص روسيا إلى إضافة مزيد من الأعباء على الاقتصاد بسبب الدعم المالي الكبير الذي توفره دول الاتحاد لأوكرانيا، وبالتالي يرى اليمين ضرورة تغيير السياسات تجاه التعامل مع تلك القضايا، الأمر الذي سيؤدي لتوفير النفقات التي تتحملها الدول مع توجيهها لدعم الاقتصادات المحلية.

ختاما: إن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دول الاتحاد الأوروبي تدفع تجاه مزيد من السيطرة لتيارات اليمين الأمر الذي سيكون له عواقب، سواء على مستوى السياسات الموحدة التي تتخذها الدول الأعضاء فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية الداخلية أو الخارجية بسبب ميل تلك التيارات إلى اتباع نهج مختلف يهدف لتحقيق المصالح الوطنية، الأمر الذي من الممكن أن يؤثر في كفاءة عمل الاتحاد ويدفع مستقبلا لرؤية مزيد من حالات الخروج على غرار ما حدث مع بريطانيا.


 

 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي