الديون تلك "الشرور" الكامنة

"طوبى للشباب لأنهم سيرثون الدين الوطني"

هربيرت هوفر، الرئيس الـ 31 للولايات المتحدة

لم تكن الديون الحكومية حكراً على دول بعينها دون غيرها، ولن تكون في المستقبل. هذه الآفة العالمية لا تتوقف عند حد، وإن كان متفاوتة بالآثار السلبية التي تتركها. ومنذ عقود شكلت هذه الديون جزءاً أصيلاً من الاقتصادات حول العالم، مع بعض الاستثناءات القليلة التي لا تذكر. والفارق بين جهة مديونة وأخرى، يكمن في قدرتها على السداد، ونجاحها في تحقيق مستويات نمو مناسبة. فالنمو هو العامل الأهم للتعاطي مع الديون وأعبائها، وإذا كان منخفضاً، أو في بعض البلدان مفقوداً، فإنها ستبقى لعقود مقبلة تحت رحمة الجهات الدائنة، بينما تعاني غياب التنمية، واستحقاقات المستقبل، فضلا عن إمكانية حدوث الاضطرابات السياسية والشعبية، وحدث ذلك فعلاً في حالات كثيرة جداً.

ببساطة، لا يمكن أن تكون غارقاً في ديون لا تعرف طريق سدادها، وتتراكم فوائدها عليك، وتنتصر. عليك أن تواجهها بآليات عملية توفر مخرجات حقيقية. الاقتصاد الحديث يستند إلى الديون، لماذا؟ لأنها في حالات متعددة تدفع النمو والإنتاج. فعلى سبيل المثال، هناك 3 بلدان في "مجموعة السبع"، هي الولايات المتحدة وإيطاليا واليابان، ضمن قائمة أكبر 5 دول تعاني الديون في العالم، لكن اقتصاداتها توفر الحماية اللازمة لها من تبعات هذه الديون. الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الدول النامية، ولا سيما تلك التي تصنف بـ"الأشد فقراً"، ديونها باتت منذ سنوات بل عقود، ليست مكبلة لها فحسب، بل "قاصمة" لأسسها الاقتصادية. وهذه الديون بلغت حدوداً تاريخياً من جهة الارتفاع -في السنوات القليلة الماضية- من فرط الآثار التي تركتها الأزمات المفاجئة المحلية منها والعالمية.

ما يزيد بلاء الديون في البلدان الفقيرة عموماً، الخدمة المستحقة عليها، حتى أن بعضها أعلن رسمياً العجز عن السداد. وفي مطلع العقد الحالي، زادت الدول العاجزة أكثر في أعقاب انفجار جائحة "كورونا" التي أوقفت أي نسبة من معدلات النمو التي كانت تسهم بصورة أو بأخرى في خدمة الديون. اليوم، هناك أكثر من 100 بلد تجهد لخدمة ديونها، وهي تعاني في الوقت نفسه، تراجع النمو إلى حدود لا تحتمل. ولأن الأمر كذلك فهي تعاني تراجع (وأحياناً اضمحلال) الإنفاق في مجالات الصحة العامة والتعليم والخدمات الاجتماعية. وهذا أمر طبيعي، عندما تستحوذ خدمة الديون على أكثر من 41 % من إيراداتها.

لا حلول ناجعة سريعة لأزمة ديون البلدان النامية والفقيرة عموماً. والحل الوحيد هو تأمين مستوى من النمو، إلى جانب العمل المتواصل على تخفيف أعبائها من جهة تخفيض مستويات الفائدة، أو إعادة الجدولة، كما حدث بالفعل في 2020، حينما قررت "مجموعة العشرين" بقيادة السعودية، اتخاذ خطوات عملية بهذا الشأن. ومساعدة البلدان الفقيرة عموماً، سيقلل من وقوعها في "براثن" ما يعرف بـ"صناديق النسور"، التي اعتادت على إغراء البلدان المدينة غير القادرة، بشراء ديونها بأسعار رخيصة جداً، لتجنب القضاء، لكن هذه "النسور" ترفع بصورة فاحشة الفوائد، ما يزيد من أمواج الدين.

ستبقى أزمة ديون البلدان النامية والفقيرة حاضرة لسنوات عديدة مقبلة، وستوفر مزيداً من التوترات المحلية في هذا البلد أو ذاك، ولا شيء يمكن أن يحد من هذه "المأساة المالية" سوى التعاطي العالمي السريع معها. فديون اليوم ستتضاعف غداً، وبالتالي سترتفع صعوبة مواجهتها حتى من جانب الدول والمؤسسات التي ترغب حقاً في إيجاد حلول ناجعة ومستدامة لهذه الآفة، التي لا تأكل النمو والاستثمارات فحسب، بل مستقبل الأجيال المقبلة التي عليها أن تسدد ديوناً لم تقترضها أصلاً!

 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي