الغاز الروسي وأوروبا .. الحب والحرب
وفر الغاز الروسي المتدفق من صحراء سيبيريا الغربية فرصة عظيمة لأوروبا المتعطشة للطاقة وللغاز على وجه التحديد فهي التي رأت في النفط مصدراً يتنافى مع توجهاتها في خفض الانبعاثات الكربونية، وركزت على الغاز ليكون الجسر الذي ينقلها إلى عصر جديد من الطاقة النظيفة والمتجددة، كما يروي عطشها من الطاقة التي يعتمد عليها اقتصادها التي تكافح لبقاءه ضمن الاقتصادات الكبرى المؤثرة في العالم.
كان الغاز ضمن الخطط الإستراتيجية التي اعتمدتها أوروبا كمصدر أقل ضرراً للبيئة وأكثر كفاءة وأداء، بينما رأت روسيا في ذلك فرصة ذهبية لتعزيز قدرتها الإنتاجية وتعزيز مواردها المالية وإيجاد نفوذ لها داخل القارة الأوربية مستفيدة من الجغرافيا الاقتصادية التي جعلت الغاز الروسي الأكثر ملاءمة، قرباً ونقلاً وتكلفة.
أوصلت روسيا شرايين الغاز بقلب أوروبا ووصل الاعتماد الأوربي على الغاز الروسي إلى 46 % من احتياجاتها، ذهبت أوروبا القارة وألمانيا الدولة إلى مستوى أعلى من الطموح والتعاون وتم إنشاء مشروع السيل الكبير نورد ستريم 1 عقبه مشروع السيل الكبير 2، الذي اخترق جسم أوروبا ومر عبر دولها ليهب الغاز الذي يتدفق إلى قلب أوروبا واقتصادها النابض ألمانيا، على إثر ذلك عززت روسيا تدفقاتها المالية من الغاز واستفادت بشكل بالغ من ارتفاعات أسعار الغاز الذي عقب ارتفاع الطلب عليه بعد فترة التعافي من جائحة كورونا حتى ارتفعت حدة الانتقادات الأوربية لروسيا بسبب نقص الغاز المتجه إليها على حساب الطلب المحلي الروسي، ما دعى الرئيس الروسي إلى لوم الأوربيين على عدم عقد اتفاق طويل الأمد يمتد إلى عقدين بدلاً من العقود السنوية المبرمة مع روسيا طمعاً في علاقة إستراتيجية طويلة الأمد يحكم وثاقها الغاز. كان هذا المشهد الذي يمثل صورة وردية لقارة وجدت مصدراً قريباً للطاقة تحصل منه على ما تريد وموّرد يصدّر لها ويحصل على ما يرغب من النفوذ والاقتصاد.
لقد كانت غاز بروم الشركة الروسية التي ترسل الغاز إلى أوروبا إمبراطورية اقتصادية عملاقة بل كانت دولة أخرى داخل الدولة الروسية ورمزاً لانتعاش الاقتصاد الروسي حيث بلغ عدد موظفيها نصف مليون شخص وطورت أكثر من 15 % من احتياطيات الغاز في العالم.
بيد أن الصورة تبدلت بالكامل بعد الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، فروسيا التي كانت تصدر 65 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا انخفضت صادراتها بمعدل 52 % من الغاز إلى 29 مليار متر مكعب سنوياً 2022، وهي التي بلغت مستويات قياسية عام 2019 وصلت إلى 180 مليار متر مكعب،كما تعطل أنبوب مشروع السيل الكبير نورد ستريم بعد عدة انفجارات شلت قدرته على حمل الغاز إلى أوروبا، اتجهت أوروبا بعده إلى الغاز الأمريكي الذي أصبح يعبر المحيط عبر ناقلات الغاز المسال كما رفعت النرويج صادراتها لجيرانها الأوروبيين لتعويض النقص في الغاز الروسي.
وقبل أيام شنت أوكرانيا هجوماً كبيراً على منطقة كورسك الروسية دخلت فيه إلى عمق 12 كيلومتراً داخل المقاطعة الروسية واقتربت من محطة سودجا التي ترسل نحو 14.6 مليار متر مكعب من الغاز المتجه إلى أوروبا، ما قفز بأسعار الغاز إلى أعلى مستوى لها هذا العام وأثار تساؤلات حول مستوى التهديدات التي تواجه هذه الإمدادات من روسيا إلى أوروبا.
الحقيقة أنه حتى إن كانت أوروبا الآن لا تعتمد على الغاز القادم من سودجا إلا على 5.2 % من احتياجاتها من الغاز فقد يكون مثل هذا الهجوم وتدمير المحطة المسمار الأخير في نعش العلاقة التي نمت بين أوروبا وروسيا بسبب الغاز، ومن المنطقي أن يرتفع السؤال عن سبب تتمسك أوروبا بالغاز الروسي، رغم الحرب الاقتصادية الشرسة التي شنتها على روسيا ومقاطعة نفطها وتقليل وارداتها من الغاز والإمعان في تطبيق العقوبات المالية عليها ولماذا تصر روسيا على التزامها في إمداد أوروبا بالغاز رغم شراسة هذه الحرب الدائرة بينهما؟
الإجابة هي أن روسيا وأوروبا أشبه بعلاقة الحرب والغرام التي أحكم وثاقها الغاز، فأوروبا تدرك أن الجغرافيا الاقتصادية تشكل جاذبية لروسيا بينما تدرك روسيا أن أوروبا مصدر المال والنفوذ لها ولهذا صرح نائب رئيس الوزراء الروسي الشهر الماضي أن روسيا مستعدة لتمديد الاتفاق الذي يسمح بإمداد أوروبا بالغاز عبر أوكرانيا عند انتهاء العقد المبرم نهاية هذا العام رغم نيران الحرب الدائرة حاليا.