الأسواق المالية تدعم ميزان المدفوعات
أهمية الأسواق المالية ليست فقط في كونها وسائل للاستثمار والمضاربة وحصول الشركات على التمويل ورفع رأس المال وتخارج الملاك والاستفادة من السيولة العالية التي تميز أسواق الأوراق المالية عن غيرها، بل إن الأسواق المالية تلعب دوراً مهماً في إدارة ميزان المدفوعات للدول التي لديها أسواق مالية حيوية وكبيرة نسبياً، وذلك يفسر سبب اهتمام دول مثل الولايات المتحدة باستقرار أسواقها المالية ورفع جاذبيتها أمام المستثمرين في الداخل والخارج.
وبالمثل فإن ذلك يفسر اهتمام السعودية بتنمية السوق المالية من خلال رفع مستوى المشاركة فيها وتنوع أدواتها وأصولها.
ميزان المدفوعات مهم في كونه يرصد حركة المال في الدولة من خلال كفتيه المتوازنتين، كفة الحساب الجاري وكفة الحساب الرأسمالي، وللتبسيط سنتجاوز بعض المصطلحات المهمة لنتمكن من التركيز على دور الأموال الخارجية في دعم ميزان المدفوعات وأهمية ذلك لدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي لديها عجز متواصل منذ عدة عقود في جانب الميزان التجاري، الذي يقع ضمن الحساب الجاري ويطغى عليه بشكل شبه كامل، وهو العجز الذي وصل إلى 1.2 تريليون دولار في 2022، ولا يزال يبلغ نحو 73 مليار دولار شهرياً.
ولذا يجب أن تتم تغطية هذا العجز التجاري من خلال الحساب الرأسمالي لميزان المدفوعات، أي إن الأموال التي تخرج من أمريكا، بسبب ارتفاع حجم وارداتها عن صادراتها لا بد أن تعود إلى أمريكا بشكل أو آخر، وإلا فلن يحدث هناك توازن في ميزان المدفوعات وستضطر الدولة إلى معالجة ذلك بطرق صعبة.
عجز الميزان التجاري الأمريكي مهم للاقتصاد العالمي، حيث هناك دول كثيرة تعتمد على التصدير إلى أمريكا، وبعض الدول الأوروبية، ونتيجة ذلك فإن أمريكا لديها فائض في الحساب الرأسمالي، أي إنها تستقطب الأموال لسد عجوزات الميزان التجاري، وإحدى أهم وسائل الاستقطاب هذه نجدها في الأسواق المالية، سواء من خلال توجه الأموال نحو أسواق الأسهم أو أسواق السندات الحكومية. هذا يعني أن أي اختلال أو تصحيح في أسواق الأسهم الأمريكية غير صحي لسلامة النظام المالي الأمريكي وسيحسب له ألف حساب والعمل على منعه بشتى الطرق.
وبالمثل أسواق السندات الأمريكية يجب أن تبقى جاذبة للأموال الأجنبية من خلال تقديم عوائد مغرية، وهو ما نراه اليوم من عوائد سندات حكومية أعلى من غيرها من الدول المتقدمة. وحتى أثناء سنوات التيسير الكمي حين انخفضت عوائد السندات الأمريكية إلى دون 1%، كانت هذه العوائد أعلى من غيرها، إضافة إلى انخفاض مخاطر الاستثمار فيها مقارنة بالدول الأخرى.
قوة الأسواق المالية الأمريكية كذلك ضرورية لاستمرار وزارة الخزانة في إصدار السندات الحكومية لسد العجز السنوي في الميزانية العامة، الذي يصل هذا العام إلى نحو 1.9 تريليون دولار، منه 892 مليار دولار لسداد الفوائد على الديون.
في المقابل هناك دول أخرى لديها فوائض سنوية في الميزان التجاري، كالسعودية ودول الخليج، وكذلك اليابان والصين وألمانيا، مقابل عجوزات لدى المملكة المتحدة وفرنسا، على سبيل المثال.
وفي جميع الأحوال يجب على كفتي ميزان المدفوعات أن تكونا متساويتين، ويتم ذلك من خلال بند مخصص لحساب الأخطاء الإحصائية البسيطة، والباقي يذهب إلى بند الأصول الاحتياطية الرسمية، ما يعني أن دولاً مثل السعودية التي تتمتع في كثير من الأوقات بالحصول على فائض في الميزان التجاري، نتيجة ارتفاع الصادرات، وكذلك فائض في الحساب الرأسمالي، نتيجة تدفق أموال أجنبية إلى البلاد، تقوم تبعاً لذلك بتغذية الاحتياطيات الرسمية، فتتعادل الكفتان في جميع الأوقات. وأي دولة لا تستطيع استقطاب أموال أجنبية لسد عجز الميزان التجاري ستضطر إلى الاقتراض الخارجي أو الاعتماد على صندوق النقد الدولي أو استنزاف الاحتياطيات من الأصول الأجنبية.
مرة أخرى، الهدف من دعم الأسواق المالية في البلاد أن ذلك مفيد في عملية تغذية الحساب الرأسمالي لميزان المدفوعات، الذي من خلاله يمكن للدولة أن تستمر في تسجيل عجوزات في الميزان التجاري، كما في الحالة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، الذي بدوره يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد العالمي.