ترمب والتجارة العالمية
لا تعيش التجارة العالمية أفضل أوقاتها. فبعد أن شهدت ذروة نموها خلال أول عقدين من القرن الحالي وبالأخص منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في بداية الألفية الجديدة، أثر حلول وباء كورونا وما تبعه من اختناقات في سلاسل التوريد والإمداد، في حركة الشحن وتدفقات التجارة. لكن تلك الأزمات تبدو هينة في مواجهة الموجة المرتفعة من الحمائية وفرض التعريفات الجمركية التي بدأها الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الحالي دونالد ترمب بهدف حماية الصناعة الأمريكية. وتبدو عودته لسدة الحكم في الولايات المتحدة تهدد بزوال عصر العولمة التجارية، التي لن تقتصر على دولة معينة أو سلعة محددة لكنها ستطول الجميع.
وعلى الرغم من التوترات التجارية المندلعة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية من جهة والصين من جهة أخرى. حيث اتجهت إدارة بايدن إلى فرض رسوم جمركية كبيرة على واردات الصين من الصناعات الحديثة مثل السيارات الكهربائية التي وصلت إلى 100%، بجانب البطاريات والطاقة المتجددة. إضافة إلى التضييقات على قطاع التكنولوجيا وبالأخص المرتبط بأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي. بينما فرض الاتحاد الأوروبي رسوما جمركية تصل إلى 38% على واردات السيارات الكهربائية الصينية. وتتنوع أسباب فرض التعريفات، ففي الولايات المتحدة تتعلق أكثر بمتطلبات الأمن القومي بجانب الاتهامات الموجهة للصين بإغراق الأسواق العالمية بالسلع الرخيصة. بينما تسعى أوروبا من وراء التعريفات إلى حماية أهم صناعاتها وفي مقدمتها السيارات بسبب التنافس غير العادل مع السلع الصينية.
لكن في حالة عودة ترمب للرئاسة الأمريكية سيكون الوضع مختلفا. على سبيل المثال ينوي ترمب فرض تعريفات بنسبة 60% أو أكثر على الواردات الصينية، يعني ذلك أن الدولة التي ظلت لسنوات أهم شريك تجاري ومصدرا للسلع للولايات المتحدة بحجم صادرات وصل في 2023 إلى أكثر من 448 مليار دولار ستكون تجارتها في مرمى الخطر بسبب تلك القرارات. الأمر لن يقتصر على الصين، لكنه سيمتد إلى الدول الصديقة وعلى رأسها أوروبا. حيث ينوي ترمب تكرار ما فعله في دورته السابقة بعد فرض تعريفات بنسبة 25% على الواردات الأوروبية من الصلب و10% على واردات الألمنيوم، لكن سيتوسع خلال الدورة القادمة وسيقوم بفرض تعريفات بنسبة 10% على كافة الواردات. الأمر الذي سيشكل صدمة كبيرة للمنتجين الأوروبيين الذين يعانون تباطؤا كبيرا في الطلب في الأسواق المحلية. ولن تتوقف التعريفات عند حدود تلك القوتين بل ستمتد لتشمل العالم بأكمله، مع مقترحات بفرض تعريفة بنسبة 10% على كافة واردات العالم للولايات المتحدة.
تلك الإجراءات وما سيتبعها من إجراءات مضادة من مختلف الدول سيترك التجارة العالمية في مأزق كبير. وسيؤدي إلى صدمة في الاقتصاد العالمي، فوفقًا لتقديرات مؤسسة فيتش (fitchratings) فإن التعريفات المقترحة ستدخل العالم في حالة من الحمائية لم يشهدها منذ عام 1930. وستطول العواقب الاقتصادية مختلف الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي يتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي فيها بنسبة تراوح بين 0.4 و0.8%. بينما يتوقع أن تؤدي التعريفات إلى تراجع الناتج المحلي للصين بنسبة قد تصل إلى 1.8%. معدلات التضخم أيضا ستتأثر بشكل مباشر مع ارتفاع تكلفة الواردات وبخاصة في السلع التي لا توجد لها بدائل محلية ويتركز إنتاجها في دول معينة.
ولعل أخطر ما يتعلق بتعريفات ترمب المقترحة أنها تأتي في وقت يعاني فيه العالم على كافة الأصعدة. فمن الناحية الاقتصادية يعيش الاقتصاد حالة من الانكماش وتراجع في الإنتاجية في ظل أسعار فائدة مرتفعة. بجانب توترات جيوسياسية تتوسع في مختلف أنحاء الكوكب من الشرق الأوسط إلى روسيا وأوكرانيا، وتؤثر بشكل مباشر في حركة التجارة العالمية بسبب تأثر أهم الممرات التجارية. وذلك على عكس فترة ترمب الرئاسية السابقة التي شهدت استقرارا ملحوظا على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية.
ختامًا، في حال نجاح ترمب في الانتخابات المقبلة وفي ظل توجهاته التي تميل إلى الانعزالية والحمائية، فإن ذلك سيكون بمنزلة بداية النهاية لفكرة العولمة الاقتصادية، وستؤدي تعريفاته المقترحة إلى مزيد من الضبابية في المشهد الاقتصادي العالمي المتأزم في الأساس، والمنهك من تبعات صدمات عديدة تعرض لها في السنوات الأخيرة من أزمة كورونا إلى تضخم جامح وتوترات جيوسياسية.